ألمُقدّمة:
ألسّبب ألرّئيسي للفساد و آلظُّلم و آلتّخلف (ألحضاريّ) و بآلتالي (ألمدني) في أُمّةٍ أو مجتمع أو حزبٍ أو حتى عائلةٍ هو آلرّكود ألفكريّ و آلأبتلاء بآلأميّة ألفكريّة لأسبابٍ داخليّةٍ و خارجيّة, و أخطر أنواعها تنتشر حين يُغْتال ألعقل ألجَمعيّ فيفقد ألنّاس ألأختيار و التّفكر و آلتّخيّل, فيتمّ تعبيدهم للحُكّام و آلمستكبرين(1).
Imagination theory لقد بيّنا سابقاً أهمّيّة ألخيال و دوره حتى إرتقى .. لجعله نظريّة متكاملة باسم (نظريّة الخيال) .
الذي عبّر عن أهميته ألريادية ( آلبرت آينشتاين ) بقوله ؛ [ ألخيال أهم من المعرفة التي تكون أعلى و ادق من العلم, لأن المعرفة تقتصر على ما نعرفه و نفهمه, في حين ألخيال يحتوي العَالم بأسره و كل ما سيتم معرفته و فهمه حتى النهاية ].
ببلاغة أعظم؛ [عالم (الواقع) له حدّ و حجم .. و عالم (ألخيال) لا حدّ ولا حجم له] و قد سبقني الفيلسوف جان جاك روسو(ت 1778م) أيضاً ببيان نفس ألمضمون أعلاه قبل أكثر من قرنين, بعد ما درس فكر و حِكَم الأمام علي ثمّ إهتدى بهديه حتى قال:
[عليّ بن أبي طالب هو الوحيد الذي يستحق كلمة ألأستاذية], و هكذا الفيلسوف جورج جورداق الذي مدح الأمام عليّ بما لم يستطع قوله حتى علماء الشيعة, حتى قال عندما سألوه لماذا لم تكتب بعد كتابتك الموسوم بـ [عليّ صوت العدالة الأنسانية]؟
أجاب :[لم أجد بعد الأمام عليّ شخصيّة تستحق الكتابة عنه].
لقد خلق الله الأنسان بخيال دافق من العقل ألذي إهتدى من خلاله إلى كشف و صناعة الكثير من الأمور و القضايا عبر مراحل التمدن ألعديدة التي نعيش اليوم آخرها على ما يبدو و هو (عصر ما بعد المعلومات), حيث شيّد منتجات عمارته و عمرانه و تكنولوجيته الرائعة التي وصلت السماء بحيث يمكنك اليوم معرفة أدق التفاصيل لأيّ كائن في اقصى الأرض من خلال شاشة صغيرة لا تتجاوز مساحة سنتيمتر مربع, رغم إن مظاهر ذلك التقدم في عالمنا العربي – الإسلامي ألمعاصر يشبه حالة من الغياب و الغائمية طالت تأثير مَلَكَة الخيال, و المدنية إنّما تحجّمت بسبب تحجيم الخيال و محدوديته و فقدان الفضاآت التي يمكن من خلالها تفعيل الخيال و إستثماره لعبور تلك الأزمات و الموانع.
و علّة العلل تكمن في آلدّين و نمطية التعليم التقليديّ و الممارسات الأحترافيّة لها بنفس القدر .. إلى جانب النظام الأداريّ الفاشل الذي يفرض وظائف محدودة على الموظف المختص كالمعماري و الطبي و الزراعي و التكنولوجي و غيرهم للألتزام بها, إلى جانب المحددات الحزبية و العشائرية و الأئتلافية التي تفرض قيوداً إضافية بحسب منافع تلك الجهات الحاكمة لأسباب داخلية و خارجية أفقدتهم إرادتهم.
لذا علينا التفكير في كيفية إيجاد القدرة على إمكانية بعث الأفكار و المَلَكَات و الطاقات المكبوتة و في مُقدمتها تنشيط مَلَكَة ألخيال خصوصاً عند المسؤوليين و المدراء و حتى الموظف و الحارس الحكومي و على كل المستويات سواءاً كان رئيساً أو وزيراً أو مديراً أو موظفاً عادياً لتحقيق المجتمع المتآخي و المحب و المتفاني الخالي من الامراض و الطبقات و الفوارق الحقوقية, و ذلك بإقامة دورات علميّة في فنّ الأدارة و الإستثمار و تحسين و توسعة الأنتاج, هذا إلى جانب إجراء الفحوصات الدورية لمعرفة سلامة المسؤوليين و الرؤوساء من الناحية النفسية, و أول المتطلبات لتحكيم هذا النمط الأداري؛ هو إعمال (النظام الإداري الإسلامي) المتطور الذي يُوجِب توفر (الكفاءة و الأمانة) في المسؤول لأنجاز أهدافه, بعد تهيئة الأمكانات و المستلزمات المطلوبة, و تحويل الخيال إلى نظريّة و النظريّة إلى واقع, بمعنى يجب البحث عن مناهج و آليات كيفيّة تدفق ألأفكار ثمّ الأستفادة منها, و يجب ألأستفادة من النظريات العلميّة التي توصلت لها دول الغرب بهذا الشأن, فآلشرع يوافق العقل .. بل و يحث على التفكر و الأبداع و الأنتاج و يعتبره واجباً يتمّ على أساسه تقيم الأنسان في الدارين.
مشكلتنا الحقيقة ليست في عدم و جود الأختصاصات و العلوم في بلادنا .. ففي العراق اليوم بحدود 37 جامعة حكومية و 56 جامعة أهلية, و يندر أن تجد دولة بهذا الكم من الجامعات المتفاوتة علميّاً و فكريّاً؛ يعني ألمشكلة ليست في التعليم أو فقدان المختصين كما يعتقد البعض الذين لا يعرفون معادلة واحدة أو قانون سليم في تطور الأنتاج و النظام الأداري(2) ألمختصّ بإدارة و تنمية الموارد الأقتصادية و الصناعية و كيفية السيطرة على ضبط الواقع على جميع المستويات؛ بل المشكلة الأولى و الأهم هي فقدان القدرة على إمكانية إيجاد و بعث الثقة و مَلّكَة ألخيال عند الرئيس و المسؤول المختص و في جميع الأختصاصات , فهي للآن ليست فقط غائبة نسبيّاً في واقع الحياة ألسّياسية و الأداريّة و الأقتصاديّة و التربويّة و العلميّة عموماً , بل و يتطلب في حال حصوله و تحقق الأختصاص ؛ أن يعرف المسؤول المختصّ أيضاً علاقة إختصاصه مع الأختصاصات الأخرى و النظام ككل, و الحال أنه ليس فقط لا يعرفون – مجرد معرفة – تلك الأمور الهامة؛ بل و حلّ بدلها الفوضى و الواسطات و القتل و النهب و الفساد بسبب التحاصص و المحسوبية و المنسوبية عند كل جهة و مسؤول .. بمعنى مشاركة الجميع و بالعدالة في الفساد و النهب و السرقة بين آلمتحاصصين.
ألمشكلة الحقيقة تكمن أيضا في فقدان ألمنهج ألفكريّ و ألوعي الكوني الذي عمَّ بسلبياته على النظام الإداري الذي يعتبر كأمّ للنظام ككل و كذلك التعاون و الألفة و الثقة بين آلعاملين و بين الناس خصوصاً بالمسؤوليين ألذين تسببوا في تعميق الفوارق الطبقية و الأميّة الفكريّة نتيجة المحاصصة و سوء الإدارة التي أنتجت الفساد بشكل خطير قد يستحيل حلّه!
أعود و أكرّر بأنّ مشكلتنا تكمن في فقدان العقيدة السليمة و الفكر الكونيّ و الأعلام الهادف و نبذ المفكرين ناهيك عن الفيلسوف و الفيلسوف الكونيّ .. بل و محاصرتهم و قتلهم و تشريدهم .. حتى و إن ظهر مرّة كلّ قرن فلا قيمة له عند عديمي الوجدان بسبب لقمة الحرام التي تمسخ وجوده, و لنا تجارب مرّة في تأريخنا بدءاً بفلاسفة اليونان كأرسطو و و سقراط و أفلاطون و غاليلوا و غيرهم .. مروراً بتأريخ الأسلام حتى ضحكت علينا الأمم بسببها, منها قتل و تكفير الأمام عليّ(ع) و الحسن و الحسين عليهما السلام سبقهم الشهيد مالك بن نويرة و غيره من أصحاب الرسول(ص) بأمر الحاكم في زمانهم و هكذا باقي الأئمة .. ثمّ السهروردي و آلحسين بن منصور (آلحلاج) و سلسلة طويلة من مناصريهم .. وصولاً لشريعتي و محمد باقر الصدر(قدس) في هذا الزمن الذي جاهد فيه بقلمه كآلسيف المقاتل وسط الجهل و الظلم و التحجر الفكري و الفقهي معلناً بوجوب وجود نظام أجتماعي – سياسي يتحكم بقوانين العدالة لأنتاج مجتمع كريم و سليم و معافى خالٍ من الطبقية؛ لكن صوته لم يروق حتى لأقرانه المراجع و لمقرّبيه الذين نعتوه بشتّى الأوصاف المهينة, و عملوا ضدّه حتى قتلوه برعاية البعث الزنيم الجاهل الذي كان يقتل حتى مجرد إنسان مثقف يظهر هنا و هناك, هذا في عالم الشيعة ..
أما في عالم السُّنة الذين إنشطروا كآلشيعة لتيارات و مذاهب شتى بعضها خطيرة للغاية لأنها تُكفّر الناس بسبب الأطماع و الشهوات, فآلوضع معهم لا يختلف كثيراً إن لم يكن أسوء حالاً بكثير ؛ فجميع حكوماتهم و معها أكثرية شعوبهم, ليسوا فقط لا ينصرون العقل و المفكر و الفيلسوف إن ظهر ؛ بل جميعهم يعملون و يحملون عليه حملة رجل واحد ليحاصروه و يذبحوه, و تأريخنا الحاضر أيضا مليئ بتلك الأحداث, ففي هزيمة ١٩٦٧ المدوية و هي نفس الفترة الزمنية التي بدأت فيها محنة الصدر الأول .. كتب الشيخ السوداني العارف (محمود محمد طه)؛ [على العرب نسيان الصواريخ و الجيوش قليلا, لان عالم ما بعد الحرب العالمية يتعاطف مع اسرائيل كأمة علماء رائدهم آينشتاين و نوبل و وخز ضمير منخرطة في التجربة الانسانية الحديثة, بينما يغرق المسلمون في تخلف و ظلم و فساد داخلي بلا حدّ .. و لا أحد يتعاطف معهم .. كتب الشيخ طه للجامعة العربية رسالة شهيرة كمفكر يهتم بالاخلاق و المعرفة مفادها: (انشروا المعرفة و العدل بين شعوبكم يا عرب و ستتبخر إسرائيل بعد أعوام)], لكن جرى إعدامه شنقاً في ملعب كرة قدم بالخرطوم باتهام الارتداد, لانه كان مثل مفكرين كثيرين يقول للمسلمين كلاما يسبق زمنهم!
و هكذا تمّ إغتيال العقل المسلم و إصابته بنزيف قاتل في الدّماغ, بهجرة معظم مَنْ تبقى منهم للخارج باحثين عن مأوى لحفظ كرامتهم علّهم يتمكنون من خدمة الأنسانية بشكل مُشرّف عبر التفكير و الخيال الذي يعتبر المفتاح الذي يحتاج لظروف آمنة و هادئة للأبداع, و تحقيق الحضارة و المدنية لأجل سعادة الأنسان الذي يعيش أوجّ الأزمات و أخطرها في هذا العصر.
و إليكم العوامل التالية ألمستنبطة من ثنايا البحوث المتقدمة و التي تبيّن أهمّيّة و دور الفكر(ألمُفكّر) و المستلزمات و الوسائل لتحقيق التقدم الحضاريّ و المدنيّ على أساس (الفلسفة الكونية) لتكون مقدّمة ثانيّة بعد المقدمة الأولى أعلاه لعرض الموانع أو ما يُسبب ألعكس من ذلك – أيّ بيان عوامل (الرّكود الفكريّ) – و آلدّخول في أصل موضوع هذا الفصل, وهي :
1- أعداد و تربية ألأنسان الصالح السليم من الأمراض السايكلوجية و البايلوجية.
2- ماهية النظام الاجتماعي – السياسيّ الحاكم و القوانين التشريعية و التنفيذية.
3- إستغلال الوقت و الجهود و إستثمارها بشكل علميّ حسب قانون الأهم فالمهم.
4- أعطاء أهميّة خاصّة لدراسات الجدوى و ما يختصّ بمستقبل الأجيال القادمة.
4- تهيئة أجواء الأمن و السلامة و الحرية و النظام المدنيّ الذي يُؤمن مجالات الأبداع.
5- أهميّة دراسة البيئة و آلمناخ و إستغلال الموارد الزراعية و المواد الخام بشكل صحيح.
6- ألمدنيّة و الحضارة يجب أن تعتمد و تتأسّس على القيم الكونيّة الضامنة لتحقيق العدالة, و إلا ليس فقط لا قيمة لها ؛ بل و تنعكس تلك الحضارة لتكون سبباً في إستعباد الناس و ظلمهم, و كما حدث في ظل جميع “الحضارات” السابقة الفرعونية و الشاهنشاهية و السومرية و آلأكدية و غيرها, و لجهل الناس و علماؤهم و سياسييهم بآلفلسفة الكونية؛ فإنهم ما زالوا يتبجحون و يفتخرون بها و يعتبرونها المثل الأعلى لهم, لذلك إزداد الظلم و الفساد و النهب و السلب بسبب ذلك .
7- ألأهتمام بآلتربية و التعليم كمحل مباشر لأعداد الأجيال العلمية – المثقفة لتحمّل مسؤولية التنمية المدنية و الحضارية.
8- تحقيق ألوئام و التعاون بين جميع أبناء المجتمع خصوصا التيارات المختلفة, لأن التفرقة يذهب بريح القوم و يفكك جهدهم و سعيهم, و بآلنتيجة يصعب و قد يستحيل تحقيق حياة خالية من آلجهل و الأمراض و الآلام و النكبات و العنف.
9- تطبيق النظام الأداري ألهادف لتحسين و توسعة الأنتاج والعمل لرفع المستوى العلمي لتحقيق رفاه المواطنين و إسعادهم.
10- تأسيس مراكز البحث و التحقيق في كل وزارة و جامعة و مؤسسة و معمل لدفع و زيادة عمليات الأنتاج و تقليل الخسائر في الجهد و الوقت و فقدان المواد الأولية, و الهندسة الصناعية و فن الأدارة خير وسيلة و ضمان لتحقيق ذلك.
تلك العوامل ألعشرة الآنفة ؛ إنما تتحقق بظل نظام إجتماعي عادل ينفي الفوارق الطبقية من الجذور بفضل تنمية الفكر و تفعيل قوة الخيال قبل كلّ شيئ بحسب نظرية الكوانتوم كما ما بيّنا تفصيلاً, لكن هناك آفات و مخاطر تُدمّر النّمو ا لفكري و الخيال, و تؤدي إلى تشوّهما, فتنتج نتائج خطيرة قد تتسبب في ثورات و كوارث تقلب عاليها سافلها لتدخل المجتمعات في دوامة القهر و التخلف و الآفات و الأمراض, و من تلك العوامل التي تسبب الفساد و الكوارث و الأنقلابات و الثورات و سنذكرها كي تكون محطات إنذار لدراستها و حلها و عدم السماح بإنتشارها لأنها تسبب التخلف و الركود الفكري و تجمد حركة الفكر في الأنسان في الأجواء العكسية التي بيّناها بإختصار في النقاط أعلاه:
موانع ألتّفكير ألسّليم ألذي يُعطل عمليّة النهضة آلمدنيّة و آلحضاريّة:
بداية يجب أن يعلم الجميع : أنه لا يمكننا حل مشكلة، باستخدام نفس العقلية التي أوجدت المشكلة, و هذا ما حدث و يحدث في أكثر بلدان العالم إن لم أقل كلها, خصوصا في العراق, و برأي أكبر علماء الأقتصاد في العالم, يقول: [إن عملية ترميم المشاكل التي يولدها النظام الرأسمالي لا يمكن أن تحل المشكلة, لأن المشكلة في أصل القانون لا في نتائجه, و هكذا بقية المستويات العلمية و الأجتماعية .. مشكلتنا تتعلق بآلجذور و البرامج و العقول التي تنفذ تلك البرامج.
كذلك لا يمكننا بناء دولة سليمة و منتجة و آمنة بالمسلح الملثم بِرايّة علي بن ابي طالب(ع) و الذي يقتل الشباب المثقف و الجامعي في العراق و باقي البلاد الأسلامية و العالم .. و بآلتالي لا حقّ له ان يحظى باحترام العالم و لا الامام عليّ(ع) و لا بتحرير أو إنتاج خير للبلاد ولا بتركيز حكم العدالة بين الناس, بل يتسبب في الفساد و تكريس الأمية الفكرية و حكم القوة التي هي عدوة الفكر و العلم و التطور.
الحاكم العربي وأيّ حاكم يدعم إنتشار ألجهل و الظلم و العبودية؛ لا يمكنه أن يكون بطلاً و منقذاً و محرراً للأنسان و الأرض, و هو يسرق الفقراء بحقوق و إمتيازات خيالية.
إعطني مقاوماً يفهم المعنى المسؤول لكلمة الحياة أو آلتنمية أو آلحرية, و انا اكون له ناصراً حتى اخر قطرة!
في بلادنا و بسبب الأمية الفكريّة المنتشرة بسبب ثقافة الأحزاب الأسلامية و الوطنية و القومية الجاهلية؛ يستطيع أيٍّ كان أن يحكم .. حتى الشيطان خصوصاً حين يظهر أمام الناس و كلمة الله على شفتيه كما يقول غاندي.
أريد بلداً متواضعا يحتفي بالعدالة و المعرفة و المساواة و سأسحق ليس فقط إسرائيل بل و أقتحم كل أوربا و كل حكومات الغرب لانني سأضمن كرامة الناس و الشباب و لن اذبح الأمام عليّ أو الحسين أو الحلاج مرّة اخرى كما فعلوا بالشيخ محمود محمد طه في ملعب الخرطوم أو بآلفيلسوف محمد باقر الصدر في غرف الأمن العامة المظلمة أو في ضواحي لندن كما فعلوا بآلمفكر عليّ شريعتي, أو في كندا كما فعلوا بـ ….!
نحن نلتقي كلّ مرّة من خلال طرح مبادئ فلسفتنا الكونية و حوارتنا السابقة حول قوانين العقل الواعي و الباطن اللاواعي في التفكير الصحيح، و أرجو أن تكون عزيزي القارئ قد استوعبت ما قلناه في الجلسات أو الحلقات السابقة, فبدون وعي السابق لا فائدة في اللاحق لأنّ تفكيرك سيكون كسياسيّنا الذين يقتطفون عبارات من حكمنا و فلسفتنا و يعلنوها على الناس البسطاء فيصدقوهم بأنهم أهل الفكر و المعرفة فيبدأ الخلط و الفساد و الظلم بسبب الجهل الذي قوّض عقولهم الباطنية فخربوا البلاد و العباد.
و هذا أمر واضح لم يعد يحتاج لدليل، فقد أدّى إلى وقوع الظلم و الفوارق الطبقية و الفساد و الشك والسفسطة، بل هناك شيء مازال يثير قلقي وتعجبي, هو أنه بعد أن تبين لنا أهمية التفكير ألمنهجي الصحيح في حياة الإنسان حتى على المستوى الشخصي ناهيك عن المجتمعي الذي يُتحكم فيه كنظام ينضوي الجميع تحت لوائه، فآلمنهج الكوني هو الذي يرسم طريقنا في الحياة..وأنّ هذه القوانين قد اكتشفها الحكماء ودونوها في علم المنطق، فلماذا لا يبحث الناس عنها .. خصوصاً الذين يتحكمون برقابهم, طبعا كجواب مبدئي السبب هو أن المدارس والجامعات نفسها لا تهتم بها؟
و الدّليل الثاني؛ أن الأحزاب نفسها بمن فيهم المُدعين بآلأستقلال و السلام و الوطن؛ لا يريدون نشر الوعي و البرنامج الأمثل لتحصين الناس .. لأنها تُحقق ألعدالة للجميع و بتحققها يفقدون جانباً كبيراً من حصصهم الحرام التي تعلموا على نهبها من قوت الناس على مرّ العصور خصوصاً في وقتنا الحاضر بآلمحاصصة العلنية!
و هكذا بان السبب بكل بساطة في عزوف الحكام عن تطبيق العدالة و المساواة في الحقوق لكونهم يفتقدون أنفسهم إلى الفكر و الثقافة الكونية التي توصلهم للعدالة؛ لذا لا عجب في إستمرار الفساد و سيستمر إلى عقود و ربما قرون حتى ظهور المهدي المنقذ, و الذي أعتقده أن الامام(ع) هو نفسه لا يظهر ما لم يتسلح الناس بآلفكر و آلوعي و العقيدة السّليمة المفقودة حالياً.
و الذي يحزّ في نفوس أهل الوجدان – و هم بعدد الأصابع و لا يتجاوزون العشر و العشرين – في الحقيقة و الواقع ليس ما عرضناه حصراً .. بل هناك مصائب و عواقب أكبر و أخطر نتجت و أفرزت بدورها الكثير من المحن و الاوبئة بعد أن تظافرت عوامل و تبعات تلك الإفرازات التي صنعها البشر المنحرف فأدت إلى تعطيل العقول والإعراض الكليّ عن دراسة الفلسفة و المنطق وآلأخلاق و تكنولوجيا التربية الحديثة و نظريات الإستدامة و الأدارة ويمكن تقسيم أسبابها لعوامل داخلية و خارجية مصدرها الأول من نفس البشر؟
الأسباب الداخلية هي التي تتعلق بنمط التفكير الخاطيء بسبب الأعتقادات و الأوهام المتوارثة، و هي الأمور الوهميّة التي تُعيق التفكير ألصّحيح للإنسان و كما بيّنا ذلك في الحلقة السابقة، لا سيما في المسائل المعنويّة التي تتعلق بفلسفته الكونيّة، و رؤيته الكليّة للحياة و الوجود و التي تؤثر على مصيره فيها، على الرغم من أنه قد اعتمد على عقله بنحو صحيح في آلجانب الماديّ، وهذا ما أسميه بالازدواجية الفكريّة, أو إشكالية الهويّة الشخصيّة حيث إعتمد على الجانب المادي دون المعنوي الذي هو الأساس في تقرير مصيره و حضارته, و بإعتقادي فأنّ هذه الإشكالية هي التي ستبرز أكثر فأكثر مع تقادم الزمن في العالم و ستتبعها مشاكل و حروب مدمرة ما لم يتحد الفلاسفة و المفكرون من أصحاب الوجدان لدرئها!
كيف يموت آلوجدان؟
يموت الوجدان حين ينقطع ألأنسان عن الأصل(ألغيب) الذي أثبتنا بأنه واقع حتى أكثر من الواقع الذي نشهده! و يتم دفنه للأبد حين يتغذى من ينابيع الشيطان و هي كثيرة عدّها الله في كتابه بـ 33 صفة كالحسد و الغيبة و النميمة و البهتان ووو.. و أخطرها لقمة الحرام التي ما أن دخلت آلبطن غيرت حتى خلايا البدن, و لا يمكن الخلاص منها إلا بآلتوبة و بآلتطهر و العمل الصالح لمدة 40 يوماً!
الغريب أن العقل الذي حقّق للأنسان معاجز ماديّة في التكنولوجيا و الأعمار و المدنية و الأفلاك و أثبت قدرته الفائقة على خوض غمار المواجهة في حياة يُواجه الجميع فيها معارك مختلفة ؛ فلماذا أقصاه الناس عن حياتهم المعنويّة و لم يتّبعوا قوانينه الصّحيحة ليرتقوا أيضا فيها، و لتكتمل الحضارة الإنسانيّة من كلّ الجوانب و الجّهات بعيداً عن الأفراط و التفريط و كما هو الواقع اليوم في الشرق و الغرب!؟
هذا الموضوع من أخطر الموضوعات العصريّة التي يواجهها البشر اليوم و بسببه حدثت الكوارث و الحروب و المآسي, و لا بد من إيجاد حلّ عمليّ لا نظريّ فقط له, بعد معرفة الأسباب الداخليّة – ألعميقة و التي يمكن تلخيصها بثلاثة عوامل رئيسيّة، هي في الواقع أوهام ذهنيّة لا أكثر :
ألأوّل: هو استصعاب الطريق، و توهّم تعذر الإعتماد على العقل وحده بنحو مستقل في التفكير و بناء الرّؤية الكونيّة المثالية عن الإنسان و العالم, و هذا يرجع بطبيعة الحال .. إلى ماهية العقيدة التي يؤمن بها الشخص أو الجماعة, فديننا مثلاً ليس هو الدِّين الأصيل الذي نزل على رسولنا الكريم و طبقه الأمام عليّ(ع) بنزاهة و شفافية عالية و كما حدده الباري لنا, فبعد نزوله و بياناته و آياته و إنتهاء حكومة الإمام(ع) تمّ خرق جميع أصوله و تغييرها و أدلجتها لصالح أفراد و أحزاب وحكومات و مراجع مختلفة, وليس للناس كافة, الذين حُرموا من رحمة الله بسببهم, لذا يشعرون اليوم بصعوبة ألأيمان و الأعتماد على الدّين كحلّ لمشاكلهم التي تتعقد يوما بعد آخر أكثر فأكثر عموماً!!
لأنها أمور غيبية غير ملموسة لبسطاء العقول، و لا محسوسة لمن لا يملك الوجدان، فلا تكون مأنوسة لهم، حيث إعتاد أكثر الناس على التعامل مع المادّيّات الملموسة بآلحواس و الجوارح .. بعد ما حُرموا من المعنويات تماماً، هذا بالإضافة إلى حالة الكسل الذهني و توقف الأنتاج الفكريّ, لهذا بات الناس يفضلون الحل السريع البسيط دون الصبر و التأمل بآلعواقب, بآلضبط كما فعلوا مع وجبات الطعام التي باتوا يفضلون الأكلات السريعة دائما لأنها أسهل و أسرع و في متناول اليد حال الطلب.
الثاني: هو الخوف من أن يكتشف العقل بقوانينه المنطقيّة بطلان آرائهم و اعتقاداتهم الدّينية أو العرفيّة أو التقليدية المقدسة أو ألمأنوسة لديهم و التي تآلفوا معها أكثر العمر نقلاً عن مَنْ سبقهم، والتى غالبا ما تؤمّن مصالحهم الشخصيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة التي باتت قائمة عليه، وهم بطبيعة الحال لا يرغبون في التخلي عنها و يصطدمون مع كلّ مَنْ يُعارضهم حتى إسالة دمائهم و كما شهدنا, و هذا هو حال الناس, حيث إنهم دائما يصدقون ما يُحبّون أن يصدقوه ولا يستبدلوه بشيئ آخر نتيجة الإفراط و التفريط المصاحبة لمثل هؤلاء (3).
الثالث: هو تَوَهّم عدم وجود قانون علميّ موضوعيّ للعقل في الأمور المعنويّة – ألرّوحيّة، كما له ذلك في الأمور الماديّة المحسوسة و غير المحسوسة المتداخلة مع المادة كآلكهرباء و المغناطيس و الموجات الكهرومغناطيسية المختلفلة، لأنّ العقل ـ بزعمهم ـ عاجز عن الخوض في مثل تلك الموضوعات رغم يقينك بعدم إمكانيّة العيش بدونها، و لذلك فلا معنى للاعتماد عليه في مثل تلك الأمور الفلسفية و الغيبية، كما يزعم (كانط) في كتابه (نقد العقل المحض)، و يقصد به العقل البرهاني الميتافيزيقي، وكان ومازال لهذا الكتاب تأثيراً سلبيا على الفلسفة الغربية من بعده، و إلى يومنا هذا، بل تخطاه إلى المفكرين الشرقيين في عالمنا العربي والإسلامي في القرنين التاسع عشر والعشرين، والذين لبوا نداءه ، وقالوا له “سمعنا وأطعنا”.
هذه الأسباب تبدوا أنّها واقعية ترتبط بها تفرعات كثيرة بالفعل، و أشعر ببعضها في نفسي، و لكن ماهي البدائل أو الطرق التي سلكوها بديلا عن العقل و عن جميع الفروع الأنسانية في حياتهم؟
لقد قام بعضهم بالفعل بإغلاق باب البحث في الموضوعات المعنوية كلياً، بل حاولوا خلال القرن الماضي إغلاق جميع الفروع الأنسانية و الرّوحانية في الجامعات الغربية بدءاً بفرنسا, إلا أنّ هِمم بعض الفلاسفة الأوربيين كروجيه غارودي و هنري كاربون و آبرهام ماسلو حال دون ذلك لكن الفرقاء المخالفين حاولوا و لا يزال حذف جميع المظاهر التي تدلل على الروحانية والدين والهيبونيزم و الأخلاق, كما فعل (أوجست كانت) و أصحاب الوضعية الذين زعموا أنها قضايا لا معنى لها؛ ).nonsense)
كما فعل “أوجست كونت”، وأصحاب الوضعية المنطقية؛
.(positivists)
بل إدّعوا عدم وجود أي شيء وراء المادة، و اكتفوا بالبحث والتفكير في المسائل المادية، واعتبروا أنّ هذا هو مجال البحث العلمي لاغير, و لعل ألدافع القوى لحدوث تلك الثورات الفكرية من قبل الفلاسفة الكبار الذين ذكرناهم ؛ إنما كانت بسبب فساد و ظلم الكنيسة و الحكومات التي كانت تدعمها إبان القرون الوسطى, و لم تكن أكثر تلك الأحكام مبررة من الناحية العقلية و كما سنبين ذلك.
و رغم إن الفيلسوف (آبرهام ماسلوا) حاول جاهداً إبداع نظرية لطيفة بل نظام شبه متكامل لسد الفراغ الروحي الغربي و الذي إشتدّ معر مرور الزمن؛ لكن الرأسماليون شهدوا أن تفعيل هذا الجانب سيكلفهم إقتصادياً و سيضرهم من الناحية الأنتاجية المادية, لهذا حذفوا أكثر مبادئه حتى من الكتب المدرسية و التعليمية مؤخراً, و طبقوه ضمن طبقاتهم الأجتماعية كي تبقى الفوائد محصورة بعوائلهم دون بقية طبقات المجتمع ألفقيرة و حتى المتوسطة .
في الشرق الناس أيضا لجؤوا إلى طرق سهلة لا تحتاج إلى مؤونة في التفكير، وهي سلوك سبيل التقليد باتباع العقائد الدينية والمذهبية الكلاسيكية، أو الأعراف والتقاليد الاجتماعية لإلقاء التبعات كلها على الدين و الرعف، أو بعبارة أخرى العقائد والأفكار التقليدية المشهورة والمأنوسة التي ورثوها من البيئة التي نشأوا وترعرعوا فيها, يقول كنفسيوس :
أمام الأنسان ثلاث طرق؛ أسهلها و أوطئها يمرّ عبر التقليد و هو أسهل الطرق بآلقياس مع الثاني ألذي يمر عبر التجربة و هو أعقد و أغلى الطرق, و أما الطريق الآخر فهو (الفكر) و هو أسمى الطرق لكن تحققه ليس سهلا .. لحاجته إلى المطالعة والدرس و الصمود.
ولكن كيف لك أن ترفع هذه الأوهام – كما يقال – من أذهانهم، وتقنعهم بضرورة إعمال العقل لأنتاج الخيال لبناء حياتهم الإنسانية، كما أستخدموه في حياتهم المادية؟
• إن المنشأ ألأوّل و الأهم المشترك لكل هذه الأسباب الداخلية هو الجهل بطبيعة العقل الواعي و الباطن وقوانينه المنطقية، أما الذي يستصعب الطريق، فنقول لا معنى للركون إلى الكسل في مثل هذه القضايا المعنوية التي تتعلق بمصير الإنسان و سعادته في الحياة، و تسليمها إلى الاخرين ليفكروا بدلا عنا و يفرضوا علينا اعتقاداتهم التي من الممكن جدا أن تكون عقائد فاسدة أو خرافية تسبب لنا العذاب والشقاء و العبودية.
فتحصيل الأموال في هذه الدنيا أمر صعب جدا، ولكن لإدراكنا لأهمية المال في الحياة، نتحمل في سبيل تحصيله كل الصعوبات، فالبحث في مثل تلك القضايا المصيرية هو أهم و أولى من تحصيل المال.
مشكلتي الكبيرة و الكبيرة جدّاً هو مع الذين يخافون البحث العقلي وآلتجديد، بدعوى الحفاظ على اعتقاده و مذهبه المتوارث؟
بيد أن المفروض على مثل هؤلاء ألجّبناء نفسياً و المحدودين عقلياً؛ أن يعلموا أنه إذا كان اعتقاده حقاً واقعياً و مستدلاً، فسوف يزيدك البحث العقلي إيمانا ويقيناً وعمقاً به, ولا خوف و لا ضير ولا ضرار حتى لو واجهت العقائد و النظريات الأخرى التي هي أيضا محل إثبات عقيدتك بكونها هي الأصح فيما لو صمد أمام أدلتهم و دعواهم، وإن كان اعتقادك باطلا خرافياً و لا يستطيع الصمود، فهو لا يستحق أن تعتنقه أو تقدسه أو تؤمن به، وسوف يحررك العقل من شرّه و يبدلك خيراً منه.
هل هناك قانون عقلي في الأمور ألمعنويّة؟
قبل عرض ألعوامل ألسلبية المانعة للتفكير و الخيال و الأبداع؛ يجب ألأجابة على آلسؤآل أعلاه لإرتباطه المباشر بآلموضوع.
و آلسؤآل ألمعني بآلحقيقة هامّ و يختصر البحث الآنف كلّه لأنه يدور حول مسائل الفكر و الخيال كأساس للأنسان و الوجود:
و ليعلم الجميع بأنّ حصر التفكير العقليّ في الأمور الماديّة دون آلمعنويّة, لا دليل عليه، بل الدّليل الأوضح و ألأقوى بخلافه؛ لأنّ العقل واحد و قانونه المنطقي في التفكير واحد……، و هو أن ينطلق العقل في تفكيره من معلومات واضحة بذاتها عنده، وهي نفس الأمور البديهية البينة التي أشرنا إليها سابقا، و لا فرق في ذلك بين كونها واضحة لأنها محسوسة كما في الفيزياء و الرياضيات، أو غير محسوسة كامتناع, كقانون التناقض والسببية، بل المعلومات غير المحسوسة هي الأصل و الأساس للمعلومات المحسوسة, كما اللامادة أساس المادة حين نتعمق في تكوينها و نصل الذرة و مكوناتها، والتي بدونها لا يمكن أن نثبت أي شيء كما ذكرنا في السابق، فهذا التبعيض والكيل بمكيالين في الأحكام العقلية ليس بصحيح، بل لا معنى له أصلا إذا فهمنا معنى التفكير العقلي السليم..
و إن الحياة الأنسانية لو خليت من المعنى و الغيب و الخيال؛ فأنها تصبح سطحية و تافهة تؤدي إلى محو إصالة الأنسان و حتى المجتمع و ديموته, بسبب إنقطاعه عن الأصل الذي أوجده .. و هذه ألعلاقة هي السّر في بعث المعرفة و آلمحبة التي هي من الله لمحبة و خدمة الخلق عبر تقديم الخدمات و العمل و الأنتاج, و صدق الشاعر بقوله الحكيم:
ألناس للناس من بدو و من حضر .. بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
و إليكم ألعوامل ألخمسة عشر ألسّلبيّة ألمانعة للتّفكير و آلخيال لأجل الأبداع و تنفيذه :
– ألفساد الإداري :
ألأدارة بمثابة (ألأم ألراعية) لمشروع أو لشبكة أو لوزارة أو لحكومة دولة .. أيّ نظام علميّ ؛ سياسيّ ؛ إجتماعيّ؛ إقصاديّ؛ صناعيّ ؛ زراعيّ؛ تقنيّ؛ عسكريّ؛ طبيّ؛ تعليميّ في أية مؤسسة أو حتى ضمن نظاق دولة خصوصاً في الدّولة الإسلاميّة التي تنشد تحقيق ألرسالة التي و جد البشر لأجلها بتحقيق العدالة و المساواة للجميع عبر تهيئة أجواء آمنة تتألّق فيها المحبة و الأمانة و الأخلاص, لهذا لا بدّ من العناية بآلهيكل الإداري و أنظمتها و تفاصيل عمل أقسامها و الحفاظ عليه من عمليات الفساد و التزوير و الأختراق و التخريب داخلياً و خارجياً و ذلك بتطبيق ألقوانين و حماية منظوماتها الأليكترونية بآلمتابعة و المراقبة الدائمة و إنتخاب الأفراد المؤهليين الكفوئين و الأمناء على الأسرار لإدامتها و تحقيق أهدافها بحسب المواصفات المطلوبة ضمن ألبرنامج ألكليّ ألعام ألذي تمّ التخطيط له من قبل وزارة التخطيط طبقاً لآراء المفكرين و العلماء و الفلاسفة الكبار.
آفة النظام الأداري, هي تفعيل المبادئ الحزبية و المحسوبية و المنسوبية في تقييم و تعيين الأشخاص و توزيع المناصب, فبمجرّد تحكيم ألمحاصصة و تلك المبادئ الضيقة فإن الفساد سينتشر في كل النظام كآلنار عندما يسري في الهشيم, و ما يعانيه العراق اليوم إنما بسبب الفساد الذي سببه المحاصصة.
ألنقطة ألأخرى ألهامة تتعلق بآلبديل .. أيّ إنتخاب ألشّخصيّات المناسبة للمواقع المناسبة بحسب ألنهج العلوي الأمثل الذي إتفق عليه علماء العالم, و فيها مسألتان, هما (الأمانة و الكفاءة) أللتان يجب أن تتوفّرا في آلمسؤول خصوصا في المناصب الرئاسية و السيادية.
و لو فرضنا وجود شخصان ؛ أحدهم يمتلك الكفاءة و الخبرة اللازمة لمنصب معين لكنه أقل أمانة من شخص آخر لا يمتلك الخبرة الكافية لكنه أمين .. فأيّهما يفضل في هذه الحالة؟
هذه مسألة هامّة تواجهها جميع أنظمة العالم و حتى على آلمستوى الشخصي و العائلي و في المشاريع الصغيرة, لذا يجب ان نلتفت إليها بدقة؛ من حيث أن ألقوانين العلويّة ألعادلة تقول ؛ بأنّ الشخص الثاني – أيّ الأقل كفاءة و الأكثر أمانة – هو الذي يجب أن يرشح لإستلام المنصب, و السبب هو في حال وقوع مشكلة أو فساد في المؤسسة أو الوزارة أو الرئاسة التي يديرها الشخص الأول – الكفوء لكن الأقل أمانة – فأن حجمه و أثره سيكون عميقاً و كبيراً لأنه خبير و يعرف كيف يفسد و يسرق و يهدر و يدمر!
أما لو حدث الفساد مع الشخص الثاني – أي الأقل كفاءة و الأكثر امانة – فإنه سيكون طفيفاً و سطحيا و يُمكن معالجته و إصلاحه بسهولة بتدخل الجهات أو الرئاسات المختصة.
– عدم الأهتمام بآلتنمية ألفكريّة:
عدم الأهتمام بعملية التّنمية الفكريّة و ذلك بعدم العناية لتهيئة الأجواء و المتطلبات اللازمة؛ تتسبب في هدر الحقوق و ضياع العدالة في المجتمع, ليحلّ بدل ذلك ألعنف و الفوضى و تسلط الشهوة و حب المال و الرّئاسة, حيث يتسبب في محو التكافل الأجتماعي و الرحمة و تضعيف و إيقاف عمليّة النمو و الأنتاج العلميّ و المعنوي بآلكامل بل و ينشغل المتسلطون في كشف الطرق الشيطانية و الغير الأنسانيّة لتحقيق رغباتهم المادية التي أشرنا لها بدل الطرق الرحمانية, حتى إن المجتمع برمته يتّجه شيئا فشيئاً نحو الأستغناء الكامل عن الفكر و التفكر و تخصيب الخيال العلميّ و المعنويّ و العمل المنتج الجاد و بآلتالي موت الوجدان و التّوجه نحو غايات أخرى محدودة الأثر في الحياة, لأن الناس عادة ما يسيرون على نهج ملوكهم, فحين يرون بأنّ الرؤوساء و الشيوخ و المدراء يستغلون مناصبهم لجيوبهم و ذويهم و مُقرّبيهم بآلمحسوبيات و المنسوبيات و يفسدون باسم الجهاد و الدِّين و الوطن و القيم لإستغلال و نهب آلفقراء .. فمن آلطبيعي في هكذا حال؛ أن يكفر الناس بالقيم و المعتقدات و حتى الوطن فينتشر الفساد و تتفرّق الأمة إلى شيع و أحزاب و تيارات و كما حدث في العراق حيث وصل عدد الأحزاب و التيارات إلى أكثر من 500 حزب و فرقة و عشيرة كل يصيح وا ليلاه , ليصبح في النهاية مجرد مجتمع طفيلي مستهلك عنيف فاقد للرّحمة و الأنسانيّة و التواضع يبحث كلّ فرد فيه عن مساعدة و راتب أو ما يصله من الحصص التموينيّة لأدامة حياته الجسدية الظاهرية ألخالية من كل معنى و هدف كونيّ, و ليواجه ضمنياً الأمراض و آلعلل و المّلل التي تواجهه حتماً .. ليموت حتى جسده رويداً .. رويداً, و بآلتالي يستحيل أن يتحقق في هذا الوضع التكامل الأنساني و الصحيّ و الثقافيّ و التعليمي و الاجتماعيّ و الأقتصاديّ والعلميّ و غيره .. هذا إلى جانب التكامل المعنوي ليبقى محصوراً في المدار البشري الذي لا يقاوم كثيراً بدون وجود المحبة و الوجدان, خصوصا و قد أصبح شيئا فشيئاً تابعاً ذليلاً 100% لمن يحكمه و للقوى الأستكبارية المهيمنة عليهم جميعاً من فوق بواسطة حكومات فاسدة باعتهم بآلجملة و المفرد و لا تهتم سوى لمصالحها الذاتية و الخاصة و لرواتبها و مخصصاتها و حصص أحزابها التي تريد سرقة المجتمعات لمصلحة المنظمة الأقتصادية العالمية, بينما الناس تسعى فقط ألحصول على القوت و العيش اليومي و بما يتفضلون عليهم من خلال الرّواتب و السّلال الغذائيّة, و كما هو حال الكثير من المجتمعات خصوصاً الإسلاميّة التي توقفت عن الأنتاج العلميّ بشقّيه ؛
الماديّ و المعنويّ.
بإختصار : ألتنمية تتحقّق في حال وجود مراكز للتحقيق و البحث بإشراف مختصين كفوئيين و أمناء, إلى جانب وجود التنسيق العالي بين الجامعات و آلمراكز و آلمؤسسات العملية – ألأنتاجية و بغير ذلك يستحيل أن يتطور و ينمو البلد.
– فقدان حاسة آلجّمال :
عرضنا في فلسفتنا الكونيّة بوجود حاسة أخرى إلى جانب ألحواسّ المعروفة لها أهمية فائقة يمكننا بها معرفة كُنه و موازين الجّمال و ماهيته الكونيّة, لأنّ هذه المعرفة تُعظّم قوّة ألخيال في وجودك و تُبعدك بشكلٍ طبيعيّ و ذاتيّ و فطريّ عن الفساد و القبح و الرّذيلة و الشر و لها تأثير كبير في تلطيف و تقويّة و إنماء الفكر الكونيّ و تفعيل قوة الخيال في وجود العارف للأثراء العلمي و هكذا يؤثر إيجابياً في آلبدن الماديّ, و لعلي لا أجانب الواقع لو قلت بأنّ الناس بضمنهم الكثير من العلماء يفتقدون لهذه الحاسة الكونيّة العظيمة التي تُنمّي فكر ألأنسان و تُسبب شفائه من آلأمراض البدنية و الرّوحيّة و آلنفسية التي بعضها يستحيل علاجها بآلجراحة أو العلاجات الطبيّة التقليديّة بسهولة, فيما لو عرفنا بأن أكثر من 99% من الأمراض التي تصيب البشر سببها روحيّ و نفسيّ.
– فقدان ألأُلفة و ألمحبّة:
نتيجة فقدان حاسة الجّمال و معرفة المقايس و المعايير الكونيّة الخاصّة بمعرفتها؛ نرى إنّ الحبّ قد إنحسر في الجوانب الجنسيّة و الماديّة المحدودة و التي بمجرد إنتهائها و تجاوزها تنتهي الروابط و العلاقات الظاهرية القائمة, و بذلك تموت الأرواح و آلأحاسيس و الوجدان, و تتلطخ القلوب بآلذنوب و آلآثام و تفقد البصيرة ا لتي بها يتم التفكير الحقيقي و إنتاج العلم, و يحلّ بسبب ذلك آلعنف و القسوة و الظلم و الكذب بدل ذلك, حتى تصبح مجتمعة حاجزاً قوياً أمام الأبداع و آلفكر و المعرفة و عمل الخير في وجود الأنسان, و بذلك ضعفت و إختفت الرّوابط الأجتماعيّة و الوحدة و التعاون بين الناس و التي إنعكست على كافة الصعد بما فيها الأنتاجية خصوصا في بلادنا رغم غناها من الناحية المادية و كثرة المساجد و ألأضرحة و مراكز العبادة بكل أنواعها, و السبب الأساسي هو عدم التعمق في فهم أحكام الدّين و فلسفة أحكامها و ما يخفى ورائها.
– ألأنتماء للأحزاب و الأئتلافات و آلعشائر و آلمليشيات لإدامة آلحياة كيفما كان كآلعبيد :
و هذه من أخطر العوامل التي تُفسد و تُحجم أفكار و إبداع المنتمين و بآلتالي المجتمع ككل, لأن العضو عليه الألتزام بمناهجهم و تعليماتهم خوفاً على مصالحه ألمرتبطة بمصالح ألرؤوساء و الشيوخ و المسؤوليين الذين يتحكمون عن طريق الحزب بحياتهم الأقتصادية و آلأجتماعيّة بشكل خاص, فكيف يُمكن أن ينتج و يبدع ذلك الذي إستأجر فكره و نشاطه العقلي لقيادات همّها الأوّل والأخير إستعباد الناس لضمان مناصبهم و رواتبهم و حماياتهم التي هي همّهم الأوّل و الأخير بسبب الفكر الحزبي المحدود المتحجر!؟
لهذا لم نَرَ في طول التأريخ بروز عالم كبير أو فيلسوف بنظرية معينة .. أو حتى مفكر عادي من بين الأحزاب و الإئتلافات التي تشكلت لا في الشرق و لا في الغرب, مما يعني عقم و فساد و خطورة التحزب و ضرره الكبير على مستقبل و صحة و سعادة المجتمعات البشرية.
– ألتّقليد الأعمى :
يقول النّبي الأرضيّ ألحكيم كونفسيوس: أمام الأنسان ثلاث طرق لخوض غمار الحياة لتحقيق ألأهداف بغضّ النظر عن أهميتها و مستوياتها و غاياتها, و هي على الشكل التالي :
ألأوّل؛ يمرّ عبر التقليد .. و هو أسهل الطرق و أرذلها!
ألثّاني؛ يمرُّ عبر التجربة .. و هو أغلى الطرق و أخطرها!
ألثّالث؛ يمرُّ عبر الفكر .. و هو أسمى الطرق أرقاها!
ملاحظة: هذا التقسيم يخصّ العلماء و المفكرين و الفلاسفة بآلدّرجة الأولى, و لا يخصّ (العوام) ألذين بحاجة إلى مختصين عادّة لمعرفة أمور الحياة بإرشادهم و هدايتهم عبر بيان الأحكام و القوانين المتعلقة بذلك.
من هذا يستطيع القارئ أن يحدّد موقفه و خياره لخوض غمار الحياة التي يأتي لها و يمرّ منها ليحدد مستقبله و خلوده, إما بآلأبداع و الأنتاج لتحقيق حياة خالدة لا تنتهي, أو حياة قصيرة لا يدري كيف تنقضي بسبب ألأضطرابات ألتي تشوبها المعاناة المختلفة بما فيها التبعية و الجمود ألذي هو نتاج التقليد الأعمى ليعيش كآلطفيليات فيتسبب بآلفقر و العوز.
– ألفقر و العوز:
الفقر و العوز أحد أهم أسباب الركود الفكريّ و ضمور الخيال, حيث يؤدي إلى التشويش و عدم الإستقرار و فقدان الأمن و الراحة و الهدوء و الصّفاء الذهني, و بآلتالي إصابة المجتمع بآلفساد و الظلم و بآلتشتت الفكري و إضطراب الأحاسيس و القوى العقلية الظاهرية و الباطنية, يقول العليّ الأعلى(ع):
[ألفقر منقصة للدّين و مُدهشة للعقل]!
و
[ألفقر يُنسي]؛
و
[إذا دخل الفقر بيتاً دخل الكفر معه]؛
يعني إختلال كلّ موازين الحياة و القيم الإنسانيّة و الكونيّة بسبب ذلك, و بآلتالي إنعدم التّفكير السليم و محو الخيال و الأنتاج العلمي الذي يتحكم بآلجانب الأقتصاديّ و الأجتماعيّ و التربويّ الذي يتحكم به من الجانب الآخر الحاكم سواءاً كان دكتاتور واحد أو مجموعة أشخاص أو أحزاب.
و الجائع لا يُفكّر عندما تُسلب حريّته سوى بملأ بطنه ولا يستطيع التفكير بشيئ آخر, حتى الذين يمتازون بآلذكاء و العلم و الكفاءة يتسبب الفقر بتدميرهم, حيث قال العليّ الأعلى(ع) أيضاً: [ألفقر يخرس الفطن عن حجته], يعني الفقر يجعل الأنسان الفطن أخرساً و غير قادراً عن بيان حتى حجته و عوزه.
لذا يجب أن تتوفر الحاجات الضرورية الأساسية لحياة الناس و الأجواء الآمنة للمحققين و العلماء قد يتمكنوا من أداء دورهم الفكري الرائد الذي بسببهم تتطور المجتمعات و تزهر بإنتاجهم العلمي, و إلا يبقى مشغولاً مذهلاً لتوفير تلك الأمور الشخصية فيخسر المجتمع نتاجه الذي يتسبب بإنقاذهم و إسعادهم.
و ليس هذا فقط ؛ بل على المجتمع تكريم العلماء و المنتجين و حمايتهم, لتشجيعهم و تمكينهم على أداء دورهم بشكل أفضل لأجل مستقبلهم و مستقبل أبنائهم و الأجيال القادمة.
إن الذي لا يملك الحقوق الطبيعية ولا يملك الحاجات الأساسية(ألكفاف) للعيش كآلسكن و اللباس و الغذاء يعيش في عذاب دائم و وجدان مضطرب و لا يُفكّر سوى بكيفية تأمين تلك المتطلبات الضروريّة و يستمر بهذا المستوى الفكري المحدود دائماً لتحقيق تلك المتطلبات ليبقى حياً داخل تلك الشرنقة و يتخلص من الدخول في المجهول – أي الموت – لأنه لا يملك فكرة واضحة عن حقيقة الموت بسبب عقائده المؤدلجة.
فالذي يفتقد مقومات ألبقاء للعيش بكرامة؛ يتعرض لمختلف العاهات الجسدية و النفسية و بآلتالي يفقد الخيال و كما هو حال العراق اليوم كما كان بآلأمس للأسف و هكذا معظم الشعوب الأفريقية و الآسيوية والكثير من شعوب العالم الغربي والشرقيّ.
– ألجلوس مع الجّهلاء:
أيضا الجلوس مع الجّهلاء و المنحرفين من أهل الطمع و الدّنيا و الشّهوات يتسبّب بآلركود الفكري و تضعيف الخيال و الإنتاج العلميّ, و نعني هنا الإختلاط و البحث و الشراكة مع هؤلاء يتسبب بتلك النتيجة, و لو كان الدافع هدايتهم و تربيتهم فأن هذا ليس فقط يتسبب بنشر المعروف و الخير ؛ بل يتسبّب أيضا بإزدياد قوّة و قدرة الفكر في صاحب العقل و الفكر, لأن [زكاة العلم نشره], و يحصل صاحبه أيضا على الثواب, ألمهم عدم مصاحبة الجاهل الذي لا يعلم حتى بأنه جاهل, لأنه يتسبّب بأضرار عديدة .. إنْ لم يتمّ تنبيهه و هدايته, و كما يقول الأمام (ع): [مَنْ صحب جاهلاً تنقّص عقله].
– ألشّبع و التخمة:
يتسبّب أيضا بتجميد الفكر و إيقافه .. لهذا فإنّ العقلاء العلماء يجب أن يعلموا بأنّ هناك قوانين لمقدار الشبع و الأكل
فآلأفراط في الأكل و ملئ البطن يتسبب في البلادة و ضعف العقل و بآلتالي تحجيم الخيال, حيث يقول الرّسول الكريم(ص):
[مَنْ أجاع بطنه عظمت فكرته و فطن قلبه].
لقد لاحظت خصوصا في شهر رمضان المبارك بأنّ أكثر المسلمين الذين يصومون الشهر؛ تراهم في النهاية يزيد أوزانهم و يتضخم أبدانهم و يصاب بعضهم بآلسكر و الضغط و الدّهن و غيرها من الأمراض بسبب مضاعفة مقدار الأكل و الشرب فيسبب التخمة التي يتسبب به أثناء الأفطار أو في آلسّحور للأسف, و ليس هذا فقط بل يؤدي لتعطيل عقله و حتى عباداته.
يقول لقمان الحكيم : [إذا إمتلأت المعدة نامت الفكرة](4).
و الأهمّ مما ذكرنا ؛ إن إشباع البطن و حالة التخمة تتسبب في قساوة القلب و موت الوجدان و العكس من ذلك صحيح أيضاً, و كما ذكرنا من خلال حديث الرسول الكريم (ص) ألآنف الذكر, حيث يتسبب الجوع البسيط بصفاء القلب و الفكر و تقوية الوجدان و تحسيس أحوال المحتاجين و يقظة الضمير.
يقول الكركاني(الجرجاني) : [لَذّات الدّنيا عبارة عن الأغذية ألشّهية و الماء الرقراق و لباس الحرير و المركوب السريع و الغلبة على الأعداء و معاشرت النساء, بينما كل هذا آلام و أمراض تُسبّب أضطراب في وضع و تفكير العلماء و المفكرين الحقيقيين](5).
– ألتعب و الإرهاق :
ألتعب و الإرهاق البدني و النفسي أيضا يتسبب بنقص التفكير و الأنتاج العلمي و ردائته , و التّعب قد يصاحب الأنسان في جميع مراحل العمر نتيجة العمل في شؤون أخرى تتسبب في تعب الجسم و آلروح و الفكر أيضا, قد يكون لأجل الكسب أو أعمال أخرى لشؤون الحياة ممّا يتسبّب بمنع الأنسان للتركيز على النتاجات الفكريّة العميقية و المسائل ألسّتراتيجية المصيرية التي تخص البشرية, من هنا يجب أن نراعي و ندعم ذوي العقول و الأفكار الكبيرة من العلماء و الفلاسفة الحقيقيين ليعطونا علمهم و أفكارهم لرقي المجتمع ككل.
– ألأنشغال بآلتوافه و الجزئيات :
هناك أموراً كثيرة في الحياة لا تستحق حتى التوقف عندها ناهيك عن التفكير و التنظير و الأسهاب فيها أو التعقيب عليها, لأنها تعتبر من التوافه و الثانويات الغير ضروريّة, لهذا يفترض بآلعلماء و المفكرين عدم الأكثراث و الإنشغال بكل صغيرة و كبيرة , بل لا تجد عند مَنْ وعى الوجود و وصل مرحلة علمية و فكرية راقية؛ يتوقف عند تلك الصغائر ليصرف مقادير ربما كبيرة من فكره و عقله في تلك الأمور فتتسبب في تعكير صفو حياته و تفكره و وجوده و نسيان الهدف الأساسي, فتنعكس على محياه و تجاعيد وجهه و قسماته و نظراته و حتى بما يحيط به من المخلوقات.
– ألخلط و الجهل بالعقائد:
و لعل هذه النقطة من أسوء الحالات و الموانع التي تبعد الأنسان .. بل و تُعجزه و تُعيقه عن معرفة الحقيقة, و هذا ما يعانيه اليوم شعب العراق برمته و معظم شعوب المنطقة و العالم, و السبب هو تشوّه ألقيم و الأخلاق و آلدّين ألذي وصلهم من آلمُدّعين و تخبط العقائد و المعتقدات التي روجتها الأحزاب المختلفة من أجل المال و الرواتب و السلطة, شيوع الثقافات التربوية الفاسدة من قبل ألأعلام الفاسد و مواقع التواصل التي تنشر كل شيئ بلا تحقيق و روية, مما تسبب بفقدان الثقة و العلاقات الأنسانية الشريفة و شيوع الكذب و البهتان و الغيبة و النفاق و الفساد بين الناس.
– الأمال ألغير منطقيّة :
و تتعلق بوجوب ملاحظة الواقع و دراسة الوسائل و الإمكانات بجانب التواضع و السعيّ ألمنهجي ضمن الممكنات لتحقيق أهداف الأفكار و النتاجات العلميّة بشرطها و شروطها من دون التطرف أو التعجرف أو الأفراط و التفريط, بجعل الهمّ الأكبر هو الحصول على المنافع و الآمال الدّنيوية, و نسيان الهدف من التفكر و العمل على تحقيق الأهداف التي وجدنا لأجلها و فيها رضا الله تعالى .
يقول الأمام عليّ(ع) : [و إعلموا أن الأمل يسهي العقل و ينسي الذكر].
و يقول الأمام الرضا(ع): [أخوف ما أخاف عليكم هو إتّباع الهوى و طول الأمل], و هذا بسبب نقصان العقل و عدم التفكر السليم.
و يمكننا أختصار الحقيقة في هذا المجال ببيان الفرق بين العاقل و الجاهل؛ بكون العاقل يطلب الممكنات التي يسهل تحقيقها, أما الجاهل فيطلب الأشياء التي تحققها مستحيلة.
و الأماني عادّة ما تعمي أعين ألبصائر, كما يقولون!
– ألتّعصب و آلعناد:
ألمُتعصّب لا يُفكّر و لا يتعقل, ولا يعرض إعتقاده أمام المعتقدات الأخرى لأختبار قوتها و صمودها أمام العقائد الأخرى(لأن العقيدة التي لا تصمد أمام العقائد الأخرى على صاحبها البحث عن عقيدة أخرى), لذا يتوجب على كل صاحب نظر و فكر طرح و مناقشة معتقداته مع أهل النظر ليرى وجه الصّح و الخطأ و الشبهات في معتقده .. و بآلتالي ليرى إلى أيّ مدى يمكن أن تكون منهج عقيدته سليمة ليلتزم بها و يدعو إليها, و الناس عادة ما يرفضون الفكر الجديد و يفضلون البقاء على ما كان فهو الأولى لهم, و قد عانى جميع أْلأنبياء و آلحكماء و الفلاسفة على مدى التأريخ من هذا الأمر حيث فشلوا في أداء و هداية الناس, و كان أهم موضوع يشغل بالهم هو كيفية إيصال الحقّ للناس لهدايتهم و تحصينهم من سيطرة الظالمين و المنافقين, لأن معظم الناس و في كل عصر يتحاججون بما إعتقدوه من آبائهم و مربيهم و إعلام النظام الحاكم المغرض و الدين الذي يدعوا له, حيث يفضلون عادة ما (ألمذهب ألمرجئي, لهذا أشار القرآن الكريم لهؤلاء بآلقول:
[إنا وجدنا آبائنا على أمّة و إنا على آثارهم مهتدون](6).
[و إذا قال لهم إتبعوا ما أنزل الله, قالوا؛ بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا, أ ولوا كان آبائهم لا يعقلون شيئا و لا يهتدون](7).
[.. وجدنا آبائنا لها عابدين](8).
[و إن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤك يجادلونك](9).
و هكذا وردت آيات عديدة إلى جانب آلأحاديث الكثيرة التي تذم التعصب و اللجاجة التي تمع صاحبها من المعرفة و بآلتالي التكامل, ليتحقق في وجودهم الخلافة الألهية.
و ذلك التعصب و العناد يُولّد الأضطراب و الضغوط النفسية, و بآلتالي شتى الأمراض الجسدية و الروحية و النفسية, خصوصا قرحة المعدة و أضطراب التفكير السليم.
– ألأضطراب و آلضغوط ألنفسيّة :
الأضطراب و الضغوط النفسية تؤديان إلى ألرّكود و الجمود الفكري, و يتسببان أيضا في إحلال الخوف و الترقب في وجود الأنسان , حيث يبقى المصاب على الدوام يتخيل و يدرك بشكل مبهم ذلك التهديد الغير الحقيقي.
هذه الحالة المضطربة تؤدي بمرور الزمن إلى جعل المصاب يائساً من المستقبل و العمل, بحيث يمنع الشخص من التفكر و التمعن و التعقل, و تبدء الأوهام و التخيلات السلبية بآلسيطرة على تفكيره , بحيث يجعله يفضل السواد على البياض و الظلام على الضوء, و بدل التفكير الصحيح يفضل الأنفصال عن ذلك, بحيث يبتعد عن مسير الحقيقة تماماً, لهذا من الصعب على هكذا أشخاص أن يكونوا أصحاب إعتقاد راسخ أو رؤية و تفكير سليم يؤدي بهم إلى نيل رضا الله., حيث يرى نفسه أصغر من أن يكون عضوا كبقية أفراد المجتمع, لهذا يصعب عليه التأقلم مع أفراد المجتمع و ربما حتى مع عائلته و المقربيين منه, حتى أنه يرفض الأستفادة من أفكارهم و آرائهم, و الغريب أن مثل هؤلاء الأفراد يمكنهم أن يكونوا سياسيين كبار أو مدراء جديين أو أساتيد كفوئيين و بإمتياز, لكنهم لا يستطيعوا بآلتأكيد أن يكونوا مفكريين و منتجين للفكر و العلم, أو ممن يفتحوا للناس ألآفاق و طرق الخلاص, لأن حالته تلك قد أبعدته عن فضاء التنوير و التجديد و التفكير و الخيال المبدع المثمر, بل و يتجه للظلام و الخمول و السكون, لأن وجود الأنسان أساساً هو للوصول إلى الحقيقة و الهدف المنشود الذي وجد لأجله و هذا يحتاج للتنوير و الأبداع و آلشوق و الحبّ و التجديد الدائم لإبعاد الخوف و الضغوط و محو الآلام من ضميره و تقوية الفكر.
ألأرادة و التصميم و القطع في تحديد القرارات بعد الدراسة و التمحيص هو المطلوب للتخلص من هذه الأوضاع المأساوية, و بما أن الأفراد المصابيين بتلك الحالات يكونوا عادة فاقديين لقوة الأرادة و التصميم الصحيح, لهذا يبقون على مفترق الطرق دائماً, لهذا نرى أن المفكريين الحقيقيين لا يتصفون بتلك الصفات, الملل و الكآبة و الضعف و التردد هو من نصيب الشخصيات الكاذبة و المتزلزلة, أؤلئك الذين قسموا شخصيتهم إلى قسمين و يعيشون حياتين؛
فحياتهم الواقعية تتصف بآلضغوط و الضجر و الملل, و في نفس الوقت ألتظاهر بحياة هادئة و طبيعية غير واقعية و هذه أيضا يكون بآلضغط على النفس و السعي لإظهارها بشكل إنسان طبيعي لا يختلف عنهم و يحاول إدامة ذلك, و لعل فقدان المصاب لعمل جديّ يكون مورد رضاه و حفظ كرامته, هو السبب الرئيسي في عنائه و مكابدته, يقول ا لأمام عليّ(ع):
[إن يكن الشغل مجهدة فإتصال الفراغ مفسدة].
و يضيف:
[ألنفس إن لم تُشغله يشغلك].
و كانت وصيّة الحلاج(ألحسين بن منصور) لخادمه قبيل إستشهاده حين سأله ليوصيه, قال: [عليك بآلعمل على إشغال نفسك ؛ لأنك إن لم تشغلها شغلتك], كما وصى إبنه الوحيد الذي كان يرافقه؛ [بُني بينما الناس يلهثون وراء المال ؛ عليك بطلب العلم فآلمال يزول و العلم يبقى]..
و لعلّ أخطر ما يواجهه مجتمع من المجتمعات خصوصا الغربية منها و تُسبب تأخره من آلناحية (الحضارية)(10) التي هي أساس السعادة نتيجة الجمود الفكري و توقف الأبداع و الأنتاج العلميّ و العمل لتحل الآلة بدل الأنسان بذلك!
يضاف لذلك وجود الأنظمة الدّكتاتوريّة ألجاهليّة بشقّيه (الفردي) حين يتحكم شخص متمرّد مريض بكل شيئ ..
أو الجماعيّ – حين تتحكم (ألدكتاتورية الجّماعيّة) بقيادة مجموعة من الأحزاب أو الكيانات المتحاصصة لمنافع حزبيّة و شخصيّة و عشائرية و عائليّة خاصة و ضيقة مسبّبة الطبقية التي تجرّ إلى الإرهاب و منع التفكير إلاّ من خلال نهجها و تمجيدها – أي الحكومات – لتكون فيزا السّماح و ورقة عبور لأهل الفكر بآلكتابة بحسب شهوة الحاكمين و مرادهم, و هذا ما سنطرحه في الحلقة القادمة لأنها من أهم ألعوامل التي تؤديّ إلى تحجّر و إنجماد و إنحراف الفكر و تشويهه و منع الأبداع و الأنتاج العلميّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تدلّل ألآيات القرآنية و الأحاديث الشريفة و العقول الحرّة؛ إلى أن أسوء و أظلم الأنظمة هي تلك التي تستعبد الناس بآلأموال التي يستولي عليها بغير حقّ كما فعل حين جند الشعب كله براتب لا يكفيه إسبوعا واحدا من الشهر, ظاهراً نفسه و كأن آلرئيس هو المتفضل و المنعم عليه, و بما أن هذا الطفيلي قد إستأجر عقله و كرامته للحاكم, فيكون مشاركا في الظلم.
(2) سألت أحد خريجي جامعة بغداد قسم الأدارة و الآقتصاد لتزويدي بأفضل تعريف عن فن و علم (ألأدارة), حيث كنت وقتها أسعى لكتابة بحث عن النظام الأداريّ في الأسلام؛ لكني إستغربت حقاً حين قال : و الله لا أتذكر لأني إنفصلت عن هذه الأمور منذ سنوات! بينما كان من خريجي الثمانينات و الحوار جرى في أواسط التسعينات؟
(3) ألتعصب الذي يصاحبه الجهل عادة خصوصا لمن لم يدرك ما يُؤمن به بشكلٍ كامل؛ يؤدي إلى الهلاك و التفكير و التآمر بعضهم على بعض, وهذا حال 350 حزب و منظمة و تيار عراقي يحكمون الساحة السياسية و الأجتماعية و العقائدية ألآن, و كلّ جهة تُكفّر الأخرى و ترى نسها هي الأفضل, في مثل هذا الوسط يستحيل أن ينتج حتى 1% من العلم الذي سببه الفكر و الخيال المُتولّد منه بشرطه و شروطه ضمن أجواء الأمن و السلام.
(4) ألمحجّة البيضاء , للفيض الكاشاني ج5, ص 154.
(5) نشرة الحوزة العلمية/قم , العدد 29, ص 79, نقلاً عن المحجة البيضاء للفيض الكاشاني, ج5 , ص 145.
(6) سورة الزخرف /22.
(7) سورة البقرة/17.
(8) ألأنبياء /53.
(9) سورة الأنعام /25.
(10) هناك فرق بين (الحضارة) و (المدنية), لأن الحضارة تمثل القضايا الأخلاقية و التربوية و الإنسانية عموماً, بينم (المدنية) تمثل الجانب المدني أو ما يسموه في الغرب بآلسيفلايزيشن.