عندما تقرأ مقالة أو دراسة أو كتابا يتناول دولة ما، هي وطنك أو كنت فيها لفترة طالت أو قصرت، فإن الذهن يزيح ستاره عن مسرح الذكريات، ولا سيما عن البلدة التي هي مسقط رأسك أو مكثت فيها طويلا لدواعي الهجرة أو العمل أو الدراسة أو السياحة لا فرق، ويحلق بك بساط الذكريات إلى أزقة البلدة وشوارعها وحدائقها، وينفتح أمامك طومار اللقاءات مع ناسها وسكانها، وتترآى أمام ناظري الذائقة مطاعمها ولذيذ السفرة وموادها، وتأخذك الذكريات إلى متاحفها تتنسم عبق التاريخ، وأسواقها القديمة وما ضاع من عطورها الزكية.
تتداعى الذكريات كتداعي أوراق الخريف، تحمل معها ثنائية الفرح والترح، فليست الذكريات جميعها ورود فبعضها قلَّ أو كثر أشواك، ولا تُقطف الوردة إلا من بين مشابك الأشواك، فحتى الأشواك تبقى ذكريات يستحضرها الإنسان يمر عليها دون أن يتلفت، فإذا توقف اعتبر العاقل منها، ونزف الدمع عندها من لا يريد لقافلة حياته أن تسير.
في سنة 1986م كنت مندوبا عن مجلة الشهيد العربية الصادرة في طهران مع زميلي الأستاذ علي كابلو لحضور مؤتمر دولي عن الخليج عقده مركز الدراسات السياسية والدولية (دفتر مطالعات سياسي وبين المللي) في شمال طهران، وهو أحد المراكز التابعة لوزارة الخارجية الإيرانية وكان يترأسه آنذاك الدكتور عباس ملكي، في هذا المؤتمر الدولي الذي حضرته شخصيات ديبلوماسية وجامعية وخبراء وأخصائيون من داخل إيران وخارجها، وفي الجلسة الصباحية من اليوم الأول اعتلى منصة الخطابة بروفيسوراً في التاريخ من جامعة طهران، تحدث عن الإحتكاك الأول بين الدولة الإسلامية الفتية في المدينة المنورة والدولة الساسانية الإيرانية وعاصمتها المدائن في بغداد، ونفى البروفيسور الجامعي في خلاصة محاضرته أن يكون الشعب الإيراني تقبل الإسلام من خلال معركة القادسية التي وقعت في العراق سنة 15 للهجرة وقلل من أهمية المعركة في تحول الإيرانيين من المجوسية إلى الإسلام ورأى أن الشعب الإيراني تقبل الإسلام لأنه وجد فيه ديناً ينسجم مع تطلعاته ولم يسلم تحت حد سيف القادسية.
استذكرت الهجرة إلى إيران قادما من العاصمة السورية دمشق سنة 1980م حتى العودة إلى دمشق ثانية سنة 1990م، وأنا أتابع بشغف كتاب “الإسلام في إيران” لمؤلفه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر حديثا في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 135 صفحة من القطع المتوسط، وهو يتناول بشيء من التفصيل تاريخ دخول الإسلام إلى إيران واحتضان الشعب الإيراني له من فرس وترك وعرب وغيرهم.
اليمن كانت البداية
يمثل كتاب “الإسلام في إيران” حلقة من سلسلة كبيرة وطويلة بعدد دول العالم، استقرأ فيها المحقق الكرباسي تاريخ الإسلام في هذا البلد أو ذاك بمذاهبه المختلفة أودع القراءات في باب (معجم المشاريع الحسينية) من دائرة المعارف الحسينية، ثم تم إدراجها في كتب مستقلة ليسهل على الآخر قارئا أو باحثا متابعة سير الإسلام في البلدان المختلفة، وفي “الإسلام في إيران” تم استقطاع الصفحات 213- 274 من الجزء الثالث من معجم المشاريع الحسينية وصدر في حلته الجديدة من إعداد وتقديم الأديب الدكتور محمد حسين بن سلطان علي نوحه خان الصابري الذي كتب مقدمة مستفيضة عن حركة الإسلام في إيران من قبل عصر الإسلام وإلى يومنا الحاضر.
في الواقع إذا كانت بعض المصادر التاريخية تشير إلى معركة القادسية سنة 15 للهجرة كمفصل تاريخي في تحول الفرس إلى الإسلام في عهد الخليفة عمر بن الخطاب أو معركة نهاوند سنة 21 للهجرة في عهد الخليفة نفسه، فإن المحقق الكرباسي يذهب أقدم من هذا التاريخ ناسبا إياه إلى عهد النبي الأكرم محمد (ص) وهذه المرة عن طريق اليمن التي كانت جزءاً من الدولة الساسانية الفارسية وليس عن طريق العراق يوم كان جزءً من الدولة الساسانية الفارسية أيضا، فهو يرى: (إنَّ الإسلام في إيران بدأ من اليمن حيث كانت اليمن ولاية إيرانية، وكان الرسول (ص) قد بعث كتابا إلى الملك خسرو پرويز الساساني يدعوه إلى الإسلام ولكن جاءت ردة فعله بتمزيق الكتاب، ثم كتب إلى واليه على اليمن باذام) يدعوه للإسلام وأسلم بعد أن رأى صدق الرسول الأكرم في خبر موت الملك الساساني، حيث: (تبين لباذام صدق قول الرسول (ص) بالتفاصيل التي ذكرها، وذلك عبر كتاب الملك الجديد قباد شيرويه، أسلم باذام وأسلم معه ناس كثير من أهل اليمن وفيهم الكثير من الفرس، وبعث باذام إلى الرسول (ص) يخبره بإسلامه فعيَّنه الرسول (ص) والياً من قبله على سائر اليمن حتى وفاته).
ولما كان المسلمون قد توزعوا إلى فرق ومذاهب، فإن المحقق الكرباسي يرى أن دخول التشيع إلى إيران تم هو الآخر عن طريق ولاية اليمن: (وأما تشيع أهل فارس فكما دخل إليهم الإسلام عبر اليمن فكذلك دخل التشيع إلى مجتمعهم عبرها، حيث إنَّ العلاقات منذ العهد الساساني كانت متينة بين اليمنيين والفرس، وبالأخص الفرس الذين استوطنوا اليمن، وقد عرف أهل اليمن ليومنا هذا بولائهم لأهل البيت (ع) وذلك منذ أن توجه أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى اليمن في السنة العاشرة للهجرة، وآمن على يده جميع أهل اليمن بحكمته المعروفة دون قتال)، على أن الكرباسي يعود بالتشيع الفارسي إلى عهد الرسول محمد (ص) حيث: (إنَّ البذرة الأولى بدأت باعتناق سلمان الفارسي الإسلام على يد الرسول الأعظم (ص) حيث كان عارفا بالتوراة والإنجيل وسائر الكتب القديمة وكان يبحث عن الدين الموعود) وأسلم مع دخول النبي الأكرم المدينة المنورة، وفي إسلامه والسبق إلى الإيمان قال النبي الأكرم (ص) كما نقل الإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241هـ: (أنا سابق العرب، وسلمان سابق فارس، وصهيب سابق الروم، وبلال سابق الحبش) فضائل الصحابة: 369 ح: 1739، وفي حديث آخر نقله الشيخ الصدوق المتوفى سنة 381هـ عن الإمام علي (ع) قوله: (السبّاق خمسة: فإنا سابق العرب، وسلمان سابق فارس، وصهيب سابق الروم، وبلال سابق الحبش، وخباب سابق النبط) الخصال: 312، بلحاظ أن الرسول الأكرم (ص) هو الموحى إليه فهو أبو الإسلام وغيره السباقون إليه.
القبول الحسن
لقد نزل القرآن في ساحة العرب على نبي عربي بلسان عربي، فمن الطبيعي أن يكون للعرب الذين حملوا رسالة الإسلام بصدق الدور الأكبر لدخول الأمم الأخرى باحة الإسلام، وليس الفرس وعموم إيران بمعزل عن هذا التأثير، وبتعبير الدكتور محمد حسين الصابري وهو يتناول جغرافية إيران: “فإيران من جهة الجنوب لها حدود مع العرب الذين كان لهم الدور الكبير لتعريف إيران بالإسلام والأثر البالغ في تكامل الثقافة الإيرانية مع الإسلام”.
إذاً كان دخول الإسلام على الشخصية الإيرانية دخولا تغييرياً نحو الأفضل والأحسن ويرد الدكتور الصابري على المستشرقين الذين يعتبر بعضهم أن: “دخول الإسلام إلى إيران من وجهة نظر المنظِّرين المستشرقين هجوماً، ولكن واقع الحال غير هذا تماماً، والمسألة تتجلى فيما عبّر عنه الشهيد مرتضى المطهري بأن الإسلام أحدث إنقلاباً لدى الشعب الإيراني، جعلهم يتحررون من الظلم والعبودية ويتخلصون من حكام الجور الذين تسلطوا على رؤوسهم من دون وجه حق وحرموهم من أبسط حقوق الإنسان”، وكان لهذه التكاملية الأثر الإيجابي على بقية الأمم في إيران الكبرى وبلاد ما وراء النهر وعموم الأمم غير الناطقة بالعربية، وبتعبير الدكتور الصابري:”أوجد الإيرانيون بتقبلهم الإسلام والعمل به شعوراً لدى الشعوب الأخرى أن ثقافة الإسلام ثقافة عالمية وأن كل قومية وملّة تستطيع أن تجد نفسها في الإسلام وتتطور من خلاله وتبني لها مكانتها وشخصيتها”.
وهذا الرأي الذي يميل إليه معد الكتاب تؤكده الوقائع، فليس من المستغرب ان نجد كل أصحاب كتب الصحاح الستة (صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن النسائي، سنن أبي داود، سنن الترمذي، وسنن إبن ماجة) هم من غير بلاد العرب، فالبخاري محمد بن إسماعيل المتوفى سنة 256هـ من بخارى بأوزبكستان، ومسلم بن الحجاج القشيري المتوفى سنة 261هـ من نيسابور بإيران، والنسائي أحمد بن شعيب المتوفى سنة 303هـ من نسا بتركمنستان، وأبو داود المتوفى سنة 275هـ من سجستان بإيران، والترمذي محمد المتوفى سنة 279هـ من ترمذ بأوزبكستان، وابن ماجه محمد المتوفى سنة 273هـ من قزوين بإيران، وعدد غير قليل من رواة أهل الشيعة هم من إيران وإن كان بعضهم من أصول عربية قذفت بهم الحروب الطائفية والممارسات القمعية إلى المدن البعيدة عن مركز عاصمة الخلافة في دمشق أو بغداد في العهدين الأموي والعباسي، وينسجم هذا الأمر مع ما جاء في المأثور النبوي في حق سلمان الفارسي عن أبي هريرة: (كنا جلوسا عند النبي (ص) إذ نزلت عليه سورة الجمعة، فلما قرأ: وآخرين منهم لما يلحقوا به، قال رجل: مَن هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه النبي (ص) حتى سأل مرة أو مرتين أو ثلاثا، قال: وفينا سلمان الفارسي، قال: فوضع النبي (ص) يده على سلمان ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء) مختصر صحيح مسلم: 467 ح: 1751.
وهذه حقيقة يقر بها الجميع من عجم وعرب، وإلى يومنا هذا فإن المجتمع الإيراني يدين بالفضل إلى الإسلام بما هو عليه اليوم من تقدم وتطور في المنطقة في المجالات كافة، وبتعبير المعد: “جاء الإسلام بالوحدانية والعبودية التي أخذت طريقها وأصبحت جزءاً من ثقافة المجتمع، ومن هنا يأتي إفتخار الإنسان المسلم والإيراني بالخصوص عندما آمن بالعقيدة الإسلامية الحقَّة، وإذا كان هناك إفتخار فلابد من الإفتخار بالتقدم الذي حصل في إيران فإنما جاء بسبب اعتناقهم للإسلام “.
حكومات الماضي والحاضر
يستعرض الكتاب سلسلة الأسر والعوائل التي حكمت إيران قبل دخولها الإسلام وبعدها، لينتهي إلى قيام الجمهورية الإسلامية على يد قائدها السيد روح الله الموسوي الخميني والموقف من ولاية الفقيه المطلقة، والأشواط الطويلة التي قطعها الشعب الإيراني المسلم في المجالات العلمية والصناعية كافة حتى عدت إيران قوة إسلامية لا يُستهان بها.
وقبل الدخول في التفاصيل يتناول المؤلف أصل تسمية إيران التي تعود كما يفيد بناء على ما ورد في معجم البلدان إلى (استيطان أحد أحفاد النبي نوح (ع) والذي هو إيران (أرفخشد) إبن الأسود بن سام بن النبي نوح، وقد أقطع إيران أقاليم بأسماء أبنائه العشرة وهم: خراسان وسجستان وكرمان ومكران وإصبهان وجيلان وسندان وجرجان وآذربايجان وأرمان، وصيّر لكل واحد من هؤلاء البلد الذي سمِّي به ونُسب إليه، وقيل غير ذلك).
ويشير بالأرقام إلى الدول التي سبقت الحضارة الإسلامية وهي الدول: المادهائية، الهخامنشية، الأشكانية، والدولة الساسانية التي انتهت بظهور الإسلام على أن: (دخول الإسلام بشكل رسمي في عمق إيران فكان بسقوط الدولة الساسانية سنة 21هـ عندما انتصر المسلمون في معركة نهاوند).
وفي العهد الإسلامي ظهرت في إيران الكبرى دول كثيرة لخّصها الكتاب في الدول التالية: الكاووسية، الشروانشاهية الأولى، السامانية، الطاهرية، الدلفية، العلوية الديلمية، الصفارية، الساجية، المسافرية، الزيارية، البويهية الأولى، البويهية الثانية، الروادية، الشدادية الأولى، البويهية الثالثة، البويهية الرابعة، البويهية الخامسة، الدنبلية الكردية، الكاكوية، السلجوقية الأولى، السلجوقية الثانية، الإصبهندائية، الحِميرية، الكاويارية، السلغرية، الهزارسبية، القتلغخانية، الكيخوارية، المغولية الايلخانية، المظفرية، السربدارية، الجلاوية، المرعشية، العلوية، التيمورية الأولى، المشعشعية، التيمورية الثانية، الكجورية، الشروانشاهية الثانية، الصفوية، الأفشارية، الزندية، القاجارية، الپهلوية، والجمهورية الإسلامية القائمة اليوم.
ويتطرق الفقيه الكرباسي في الكتاب إلى ذكرياته قبيل انتصار الثورة الإسلامية وزيارته إلى فرنسا ولقاء أستاذه في الفقه قائد الثورة لمرتين بضاحية نوفل لوشاتو الباريسية، كما استعرض مسألة ولاية الفقيه التي يرى أنها من أساسيات إقامة الدولة الإسلامية لأنه: (مثل هذه الولاية إذا لم يقل بها الفقيه لا يمكنه من إقامة دولة ولا القيام بأي شيء تنفيذي على أرض الواقع)، متسائلاً: (ومن الغريب أنَّ كل الدول في العالم لها الحق في أن تكون لها الولاية العامة، وأما إيران لا يحق لها ذلك!).
يشكل الكتاب في واقع الحال قراءة تاريخية وحديثة لواقع إيران، نجد تفاعلاتها في إغلاق السفارة الإسرائيلية سنة 1979م وإحلال سفارة فلسطين محلها، والحرب العراقية- الإيرانية (1980- 1988م)، والاتفاق النووي وتداعياته، والمفاجئات التي تفجرها طهران بين الفترة والأخرى في المجالات العلمية والتصنيع العسكري، رغم الحصار الأميركي وحلفائها المفروض منذ قيام الثورة وحتى اليوم، وغيرها من التحولات الذي يرصدها الكتاب مستهدياً بالأرقام والإحصاءات المحلية والدولية.
الرأي الآخر للدراسات- لندن