جنايته وإتلافه
البحث من تأليف هاني بن عبد الله بن محمد الجبير وموضوعه ما يسمى بجرائم الحيوان فى مال الإنسان وقد كتب للبحث عدة تمهيدات واخترت حذفها لعدم الحاجة لها وقد بدأ البحث بتعريف المسئولية فقال :
” المسئولية :
المسئولية في اللغة من سأل يسأل سؤالا ومسألة فهو مسئول والاسم المسئولية والمراد بها هنا إلزم شخص بضمان الضرر الواقع بالغير ، نتيجة لتصرف قام به وعند القانونيين للمسئولية قسمان :
أ المسئولية التعاقدية : وهي ضمان الضرر الناشئ عن الإخلال بعقد
ب المسئولية التقصيرية : وهي ضمان الضرر الناشئ عن الفعل الضار
فنطاق بحثنا منحصر – عند القانونيين – في المسئولية التقصيرية “
ومما سبق نجد الجبير يقصر بحثه على تقصير الإنسان الناتج عنه جرائم ارتكبها حيوان يملكه وعرف الجبير صاحب اليد فقال :
“صاحب اليد :
يتكرر في هذا البحث قول الباحث : إن كان مع الحيوان صاحب اليد ، أو لم يكن معه ، ومراده بصاحب اليد : المصاحب للحيوان ، الذي الحيوان تحت يده ، فهو أولى من التعبير بصاحب الحيوان ، ليشمل المالك والأجير ، والمستأجر ، والمودع ، والمستعير ، والموصى إليه بالمنفعة
وأما الغاصب فهو وإن كان صاحب اليد ، إلا أن إرساله موجب للضمان سواء تعدى أولا ، وسواء كان ليلا أو نهارا هذا المذهب عند الحنابلة
– وفيه رواية أخرى : أنه إن لم تكن يد له ظاهرة عليه ، وإلا فلا ضمان
وكون الغاصب في هذا كغيره قريب لظاهر الخبر كما سيأتي “
والرجل هنا فرق بين المالك والغاصب والسارق والمستعير وغير هذا مما يطلق عليه صاحب اليد وهو ممسك الحيوان وبعد ذلم عرف الإتلاف فقال :
الإتلاف :
هو مصدر أتلف يتلف إتلافا ، وهو الهلاك والمراد به بإخراج الشيء من أن يكون منتفعا به منفعة مطلوبة منه عادة والإتلاف سبب موجب للضمان ، لأنه اعتداء ، والله تعالى يقول : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }وإذا وجب الضمان بالغضب فبالإتلاف أولى ، لأنه اعتداء وإضرار محض وقد يعبر البعض بالإفساد وهو مرادف للإتلاف والجناية مثلهما ، إلا أن الغالب استعمالها فيما كان فيه تعد على الأبدان “
ومما سبق نجد أن الجريمة مكونة من متلف هو الحيوان ومسئول عن المتلف وهو صاحب اليد والجريمة المرتكبة الإتلاف
وتكلم الجبير عن قيام الحيوان بإتلاف شىء وهو فى يد المسئول عنه فقال :
“الباب الأول المسئولية عن إتلاف الحيوان إذا كان بيد أحد
الحيوان عند حصول الإتلاف أو الجناية منه ، فإنه لا يخلو إما أن يكون بيد أحد أو لا على ما سبق بيانه فإن كان بيد أحد فلا يخلو من أحد حالات ثلاث :
الحالة الأولى : أن ينعدم تحكم صاحب اليد بالحيوان ، فلا يستطيع السيطرة عليه ، ولا التحكم به
الحالة الثانية : ألا ينعدم تحكم صاحب اليد بالحيوان مع تسببه في إتلافه أو جنايته ، وهذه الحالة لها صورتان :
الصورة الأولى : أن يتعمد جنايتها ويقصد الإتلاف بها
الصورة الثانية : ألا يتعمد جنايتها ، لكنه متسبب فيها كمن نخس حيوانه أو جبذه بلجامه فوق ما اعتاد ، فتسبب في الجناية أو الإتلاف
الحالة الثالثة : ألا يتسبب في الجناية ولا يتعمد وقوعها ، إلا أنها وقعت حال كون يده على الحيوان ، مع أنه قادر على التحكم بالحيوان
هذه إجمالا هي حالات الإتلاف التي تقع من حيوان بيد أحد ، وفي كل حالة منها خلاف في تحميل المسئولية تفاوت فيه أنظار الفقهاء نستعرضه في الفصول القادمة “
وهذه الأحوال بعضها يتداخل فى بعض فالحالة الثالثة لا يمكن إلا أن تكون واحدة من الصورتين وهى الصورة ألولى لأن الممسك ترك الحيوان عمدا يتلف مع قدرته على التحكم فيه
وفى التالى بين حالة انعدام تحكم المسئول فى الحيوان فقال :
“الفصل الأول أن ينعدم تحكم صاحب اليد بالحيوان:
إذا انعدم تحكم صاحب اليد بالحيوان ، فانفلت ولم يعد في طوع صاحب اليد ، فإن الفقهاء اختلفوا فيما لو أتلف شيئا في مثل هذه الحالة ، على من تكون مسئوليته ، ومن يتحمل ضمانه على قولين :
القول الأول : تضمين صاحب اليد ، وهو قول للشافعية واستدلوا بأنه مفرط بترك ترويض دابته
القول الثاني : سقوط الضمان ، وإهدار الجناية أو الإتلاف ، وهو مذهب الجمهور
والصواب الثاني ؛ وذلك لأن العاجز عن التصرف وجوده كعدمه ، وهو غير مسير لها ، فلا يضاف سيرها إليه ولأن الأصل في إتلاف الحيوان وجنايته : أنه هدر إذا لم يكن بيد أحد وصاحب اليد هنا عاجز فوجوده كعدمه إلا أن هذا مشروط بأن لا يظهر صاحب اليد بمظهر المفرط ، وذلك بأن يفعل ما يمكنه لمنع الحيوان على الإتلاف ، وأن ينبه من حوله إلى الحذر منه وأما قولهم : إنه مفرط بترك ترويض دابته ، فممنوع بأن الدابة المروضة قد تركب رأسها كما هو معلوم وهذا القول بالتضمين معارض لقواعد الشريعة الكلية من عدم التكليف بما لا يطاق ، وهو أيضا مخالف لمنصوص الشافعي إذ قال في كتابه اختلاف الحديث : ( ويضمن القائد والراكب والسائق ؛ لأن عليهم حفظها في تلك الحال ، ولا يضمنون لو أنفلتت )”
وكلام الجبير يتناسى فيه هو ومن نصرهم أنه هناك رجل أو امرأة خسر مالا أو خسر شىء كعضو وقد يكون خسر نفسا أى روحا بسبب ذلك ومن ثم فعدم المسئولية هناك خروج على الشرع ومن ثم فالجريمة سوف تكون ضمن جرائم الخطأ غير المتعمد كجريمة القتل الخطأ فمرتكب الجريمة لا يكون قاصدا ارتكابها ولا هو يعمل شىء لارتكابها ومع هذا أوجب الله الدية أو الكفارة أو هما معا
القوم هنا تناسوا الضحايا تماما وكان شيئا لم يحدث ولو كان الأمر كما يزعمون ما أوجب الله على قاتل الخطأ كفارة ولا دية ولا شىء
ثم قال :
“الفصل الثاني ألا ينعدم تحكم صاحب اليد بالحيوان مع تسببه في جنايته وإتلافه
المبحث الأول :
المسئولية إذا تعمد صاحب اليد جناية الحيوان
إذا تعمد صاحب اليد جناية الحيوان ، كما لو أرسل حيوانه العقور إلى أحد ليقتله ، أو ألقى عليه أفعى أو نحوها مما يفضي إلى القتل غالبا ، فعليه الضمان بلا نزاع وقد جعله الجمهور من ضمان العمد ، لإفضائه إلى الموت غالبا ، أما أبو حنيفة فليس بعمد عنده ؛ لأن العمد عنده ما كان بسلاح ، أو ما أجري مجراه”
قطعا يضرب بقول أبو حنيفة عرض الحائط لمخالفته كلام الله لأن الفاعل تعمد ارتكاب الجريمة عن طريق الحيوان وفى هذا قال تعالى ” ,ان ليس للإنسان إلا ما سعى” فالجريمة من سعى وهو عمل الفرد أى بألفاظ أخرى هو مرتهن بكسبه وهو عمله كما قال تعالى ” كل نفس بما كسبت رهينة” ثم قال:
“المبحث الثاني :
المسئولية عن الحيوان إذا لم يتعمد صاحب اليد الجناية مع تسببه فيها
إذا تسبب صاحب اليد في جناية الحيوان ، دون قصد منه لجنايته ، إلا أن فعله تسبب في فعلها لهذه الجناية ، كما لو ضرب وجهها ، أو جذبها بلجامها فوق ما اعتادت ، فهنا يضمن ما أتلفت لتعديه أما لو لم يفعل ( إلا ما يعتاده الناس في ذلك ، فلا ضمان عليه ؛ لأنه فعل في ملكه ما أباحه له الشرع ) فإن كان السبب من غيره فإن المتسبب يضمن مطلقا ، فإن أتلف الحيوان ناخسه فهدر ، وإن أتلف صاحب اليد فالضمان على الناخس
واستثنى الحنفية ما لو أمره صاحب اليد بالنخس ، والتنفير فعندهم يكون الضمان عليهما وهو قول له حظ من النظر ، لاشتراطهما في سبب الإتلاف
مسألة : – لو أتلف الحيوان المنخوس أجنبيا – وصاحب اليد معه ، ولم يأمره بالنخس أو التنفير – فمن يتحمل المسئولية ؟
اختلف الفقهاء في هذا على قولين :
القول الأول : أن المتسبب يضمن وهو ما ذهب إليه الجمهور
القول الثاني : قول أبي يوسف بأن الضمان على المتسبب وصاحب اليد نصفان وقد استدل بأن الإتلاف حصل بثقل الراكب ، وفعل الناخس ، وكلاهما سبب لوجوب الضمان
أما الجمهور فاستدلوا بعدة أدلة :
1- ما ورد أن ابن مسعود ضمن الناخس دون الراكب فعن القاسم بن عبد الرحمن قال : ( أقبل رجل بجارية من القادسية ، فمر على رجل واقف على دابة ، فنخس رجل الدابة ، فرفعت رجلها ، فلم يخط عين الجارية ، فرفع إلى سلمان بن ربيعة الباهلي فضمن الراكب ، فبلغ ذلك ابن مسعود ، فقال : إنما يضمن الناخس ) أهـ
2- الإجماع السكوتي ؛ وذلك أن فعل ابن مسعود السابق وما حكم به ، كان بمحضر من الصحابة ، ولم يعرف الإنكار من أحد فيكون إجماعا
3- أن الناخس هو المتسبب في الحقيقة فيختص الضمان به ، وأما الراكب فلا عمل له
وأما ما استدل به أبو يوسف فيناقش : بأن المتسبب لو لم ينخس الحيوان لما وقع الإتلاف ، وهذا يدل على أنه السبب في الإتلاف ، فيتحمل الضمان وبالنظر في الأدلة يظهر رجحان مذهب الجمهور ؛ لقوة ما استدلوا به “
كما سبق القول الجريمة سواء وقعت عمدا أو غير عمد لابد فيها من عقاب والعقاب فى حالة العمد أو غير العمد يثبت على من قام بالفعل أو كان ممسك بالدابة فإذا كانت بيد المسئول ونخسها أحد المارة فالمار هو المسئول وليس الممسك لقوله تعالى ” ولا تزر وزارة وزر أخرى”
ثم قال :
“الفصل الثالث ألا يتسبب في جناية الحيوان – مع تحكمه به
مدخل :
إذا أتلف دابة وذو اليد معها ، وهو قادر على التحكم بها ، إلا أنه لم يتسبب في جنايتها ، بل وقعت الجناية ، أو الإتلاف من الحيوان فقط ، ولا دخل لصاحب اليد فيها فهل يتحمل المسئولية أم لا ؟ هذا ما يستعرضه الباحث في هذا الفصل
المبحث الأول : الخلاف والأدلة
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أربعة أقوال :
القول الأول : لا ضمان مطلقا وقال به الظاهرية ، وهو منقول عن مالك
القول الثاني : وجوب الضمان مطلقا وقال به الشافعي وهو رواية عن مالك ، واستثنى ما لو رمحت بغير أن يفعل بها أحد شيئا ترمح بسببه
القول الثالث : يضمن صاحب اليد ما أصابت بمقدمتها كيدها وفمها ، دون رجلها
وهو المذهب عند الحنابلة ، وقول مالك وأصحابه ، وهو رأي للحنفية
القول الرابع : يضمن ما عدا النفحة وهو قول الحنفية ، وقول عند الحنابلة ، إلا أن الحنفية خصوه بما إذا كان سائرا في طريق عام ، فإن كان سيره في ملكه ، أو مأذون له فيه فلا ضمان ، إلا في الوطء وهو راكبها ، فإن كانت واقفة ضمن النفحة أيضا
سبب الخلاف :
للخلاف في هذه المسألة حسب ما ظهر للباحث سببان :
الأول منهما هو ما يظهر من تعارض الأحاديث ، فإنه ورد عن الشارع إهدار حناية الحيوان ، وورد عنه التضمين ، فعملت طائفة بالإهدار مطلقا ، وأخرى بالتضمين مطلقا ، وفصل غيرهم ، وكل كان له وجهة في التفصيل
والثاني من أسباب الخلاف : ملاحظة التفريط ، والقدرة على منع الجناية من صاحب اليد ، فمن رأى أن صاحب اليد هو الذي يستطيع تسيير الدابة مطلقا ضمنه ، ومن جعله قادرا في حال دون حال فصل
الأدلة :
استدل الفريق الأول النافين للضمان مطلقا بما يلي :
1- قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( العجماء جبار ) والجبار الهدر الذي لا شيء فيه وهذا نص في المطلوب
2- ما نقل عن مكاتب لبني أسد أنه أتى بنقد – أي صغار الغنم – من السواد إلى الكوفة ، فلما انتهى إلى جسر الكوفة ، جاء مولى لبكر بن وائل ، فتخلل النقد على الجسر ، فنفرت منها نقده ، فقطرت الرجل – أي ألقته على أحد قطرية ، أي : شقيه في الفرات ، فغرق ، فأخذت فجاء مواليه إلى موالي ، فعرض موالي عليهم ألفى درهم ولا يرفعونه إلى علي ، فأبوا ، فأتينا علي بن أبي طالب ، فقال لهم : إن عرفتم النقدة بعينها فخذوها ، وأن اختلطت عليكم فشرواها – أي مثلها – من الغنم
فهنا لم يضمن علي رضي الله عنه صاحب اليد
3- أنها جناية بهيمة فلم يضمنها ، كما لو لم تكن يده عليها واستدل الفريق الثاني الموجبون للضمان مطلقا بما يلي :
1- أن الحيوان في يده ، وعليه تعهده وحفظه ، فالجناية منه دليل تفريطه
2- أنه إذا كان مع الحيوان كان فعل الحيوان منسوبا إليه ، والحيوان كالآلة في يده
واستدل الفريق الثالث بما يلي :
1- قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الرجل جبار ) وتخصيص الرجل بكونه جبارا دليل على وجوب الضمان في جناية غيرها
2- ولأنه يمكنه حفظها عن الجناية إذا كان راكبها ، أو يده عليها ، بخلاف من لا يد له عليها
واستدل الفريق الرابع بما يلي :
1- أن المرور في طرق المسلمين مأذون فيه بشرط سلامة العاقبة ، فإذا لم تسلم العاقبة لم يكن مأذونا له فيه ، والمتولد منه يكون مضمونا ، إلا مالا يمكن التحرز منه ، والنفخ مما لا يمكن التحرز منه ، فسقط اعتباره ، والتحقق بالعدم
2- حديث ( الرجل جبار ) فيجب الضمان في جناية غيره ، وخصص عدم الضمان بالنفح دون الوطء ، لأن من بيده الحيوان يمكنه أن يجنبه وطء ما لا يريد أن يطأه بتصرفه فيه ، بخلاف النفح
3- قول ابن سيرين : ( كانوا لا يضمنون من النفحة ، ويضمنون من رد العنان ) وهو حكاية عن عمل من قبله ولم يعرف له مخالف
المبحث الثاني : المناقشة والترجيح
مناقشة أدلة الفريق الأول :
يناقش أول أدلتهم بأن المراد بالعجماء في الحديث الدابة المنفلتة ، التي لا يكون معها أحد ، ويدل لذلك ( ما وقع في رواية جابر عند أحمد والبزار بلفظ : السائمة جبار وفيه إشعار بأن المراد بالعجماء البهيمة التي ترعى لا كل بهيمة ، لكن المراد بالسائمة هنا التي ليس معها أحد ؛ لأنه الغالب على السائمة ) فيكون الدليل خارجا عن محل النزاع
أما الثاني من أدلتهم ، فليس في محل النزاع أيضا ، وذلك أن راعي الغنم قد انعدم تحكمه بها ، فلا ضمان ، كما مر
أما الثالث ، فإن جناية البهيمة قد تضمن ؛ ويدل لذلك حديث البراء ، وغيره وأما قياس هذه الحالة على ما لو لم تكن بيد أحد فليس بصحيح ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( العجماء جبار ) وورد عنه أنه قضى بالضمان فيما أفسدت العجماء ، فدل ذلك على أن ما أصابت العجماء في حال جبار وفي حال غير جبار فالإطلاق غير صحيح
مناقشة أدلة الفريق الثاني :
يناقش أول أدلتهم بأن الجناية ليست دائما دليلا على تفريط صاحب اليد، وذلك كما لو انفلت منه ، أو كما لو وطئت دون علمه
ويناقش الثاني بأن الفعل ينسب إليه إذا تسبب فيه أو استطاع منعها منه وفرط ، أما في هذه الحالة ، فإن نسبة الفعل إليه بعيدة
مناقشة أدلة الفريق الثالث :
يناقش أول أدلتهم بأنه حديث ضعيف ( ولو صح فاليد أيضا جبار قياسا على الرجل ، ويحتمل أن يقال : حديث الرجل جبار ، مختصر من حديث العجماء جبار ، لأنها فرد من أفراد العجماء ) ولا يمكن أن يقال إن الرجل جبار مخصص لحديث العجماء جبار لما تقرر في الأصول من أن التخصيص بموافق العام ؛ لا يصح
مناقشة أدلة الفريق الرابع :
يناقش أن قول ابن سيرين لم يبين فيه هل المراد به الدابة ومعها أحد ، أم لا ؟
الترجيح :
الذي يظهر للباحث أن القول بتضمين ما سوى النفحة ؛ قول قريب وجيه ؛ لأن صاحب اليد لا يمكنه منعها منه إلا أنه مما ينبغي العناية به ملاحظة التقصير من عدمه ، والقدرة على منع الجناية من عدمها ؛ فإن كل حيوان بحسبه وكل زمان ومكان له ظروفه ، فعلى الحاكم والمفتي التحري في ذلك ، والاجتهاد ، حتى يظهر له من قرائن الأحوال ، ودلائل الموقف ، ما يعرف بالتقصير من عدمه ، والله الموفق “
كما سبق القول عند وجود تلف فلابد من أحد أمرين :
معرفة المخطىء سواء كان المسئول عن الحيوان أو غيره وبناء على معرفة المتسبب فى الخطأ وهو الجريمة يكون الحكم والروايات كما قال الباحث متعارضة لأن النبى(ص) لم يقلها ولا حكم بها صحابته فعلى المعروف بأنها أقضى الصحابة جعل مقابل الغريق وهو إنسان مجرد خروف ضربه والغريب أن الحكم مضحك فهو يطلب من أهل الغريق أن يعرفوا الخروف الضارب ليأخذوه وهم لم يكونوا حاضرين هم أو غيرهم وبالقطع القاضى العادى لابد أن يطلب شهود على القضية وليس مجرد كلام
وقطعا الخروف الضارب هنا خرج من العملية بريئا وضاع دم الإنسان فلم يحكم فيه بحكم القتل الخطأ ولا يمكن القول أن الطريق خاص بالحيوان لأنه شركة بين الناس وحيواناتهم
ثم قال:
|الباب الثاني المسئولية عن إتلاف الحيوان إذا لم يكن بيد أحد
تمهيد
إذا لم يكن الحيوان بيد أحد فالأصل فيه ؛ أنه لا ضمان ، لحديث ( العجماء جبار ) ، والمراد بها السائمة التي لا يد لأحد عليها ، كما تقدم ولأن الفعل غير مضاف إلى صاحب اليد لعدم ما يوجب النسبة إليه
إلا أن هذا مشروط بشرطين :
1- ألا يظهر صاحب اليد – المالك – بمظهر المتعدي
2- ألا يفرط في حفظها وتضمن الشرطان السابقان مسائل نستعرضها في الفصلين القادمين
الفصل الأول
تعدي صاحب اليد
إذا كان مالك الحيوان متعديا ، فإنه يضمن إتلاف الحيوان ، وإفساده وإن لم يكن بيده ، وذلك كأن يكون حيوانه عقورا ، أو ضاريا ، ويطلقه على الناس في مجامعهم وطرقهم ، وكما لو أرسله بقرب ما يتلفه عادة ، كالسيارات ونحوها ، فإنه هنا متعد في فعله ملزم بالضمان وضابط العدوان : أن يفعل ما ليس له فعله ، أما من أبيح له فعل شيء ، أو تركه فإنه لا يترتب عليه شيء إلا ابن حزم له رأي يخالف ما تقدم ، وذلك أنه يقول : ( لا ضمان على صاحب البهيمة فيما جنته في مال أو دم ، ليلا أو نهارا ، لكن يؤمر صاحب بضبطه ، فإن ضبطه فذاك ، وإن عاد ولم يضبطه بيع عليه ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( العجماء جرحها جبار )) وظاهر نفي الضمان ، سواء كان المالك متعديا أم لا ، وهذا ليس بسديد ؛ إذ قواعد الشريعة جاءت بإلزام المتعدي بضمان ما تلف بسبب تعديه وحديث (( العجماء جبار )) مخصوص مما نحن بصدده بدليل حديث ناقة البراء كما سيأتي في الفصل القادم “
وقطعا هنا الحكم هنا واجب على صاحب اليد لأنه لم يقم بواجباته ومن ثم يجب عليه أحكام جرائم الخطأ ثم حدثنا عن تفريطه فقال :
الفصل الثاني تفريط صاحب اليد
متى فرط مالك الحيوان ، وجب عليه الضمان والمرجع في معرفة التفريط من عدمه : العادة ، فمن فعل ماله فعله عادة ، فليس بمفرط ، وتحت هذا الأصل مسائل
المسألة الأولى : إذا أفسدت الماشية زرعا
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
القول الأول : سقوط الضمان مطلقا ، وقال به الحنفية والظاهرية
القول الثاني : وجوب الضمان مطلقا بأقل الأمرين من قيمتها أو قدر ما أتلفته – وقال به الليث
القول الثالث : التفصيل فإن وقع الإتلاف نهارا فلا ضمان ، وإن وقع ليلا وجب فيه الضمان وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم
سبب الخلاف : سبب الخلاف في هذا الباب معارضة الأصل للسماع ، ومعارضه السماع بعضه لبعض ، فالأصل أن على المتعدي الضمان ، والمرسل للحيوان متعد بإرساله فوجب عليه الضمان وهذا معارض بحديث (( العجماء جبار )) ويعارض التفرقة التي في حديث البراء وكذلك التفرقة التي في حديث البراء تعارض حديث العجماء جبار
الأدلة :
استدل أصحاب القول الأول بما يلي :
1- حديث (( العجماء جبار )) فالمنفلتة جنايتها هدر ، وهذا نص في المسألة
2- لأنها أفسدت وليست يده عليها فلم يلزمه الضمان ، كما لو كان نهارا
استدل أصحاب القول الثاني بما يلي :
أن المرسل للدابة بإرسالها ، والأصول أن على المتعدي الضمان
1- قوله تعالى : { وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلا أتينا حكما وعلما الآية } قال شريح والزهري وقتادة : النفش لا يكون إلا بالليل زاد قتادة والهمل بالنهار
وقال في مختار الصحاح : ( ونفشت الإبل والغنم أي رعت ليلا بلا راع ، من باب جلس ، ونفشت تنفش بالضم نفشا ومنه قوله تعالى : { إذ نفشت فيه غنم القوم } وأنفشها غيرها تركها ترعى ليلا بلا راع ولا يكون النفش إلا بالليل ، والهمل يكون ليللا ونهارا ) أ هـ
والآية واردة في غنم لقوم رعت حرثا لآخرين ليلا فحكم فيها بالضمان فهذا نص في وجوب الضمان ليلا فيخصص به عموم (( العجماء جبار ))
2- حديث حرام بن محيصة (( أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم فأفسدت ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الأموال بالنهار ، وما أفسدت بالليل فهو مضمون عليهم ))
3- أن ( العادة من أهل المواشي إرسالها في النهار للرعي ، وحفظها ليلا وعادة أهل الحوائط حفظها نهارا ، دون الليل فإذا ذهبت ليلا كان التفريط من أهلها بتركهم حفظها في وقت عادة الحفظ ، وإن أتلفت نهارا كان التفريط من أهل الزرع فكان عليهم )
مناقشة أدلة الفريق الأول :
أن حديثكم عام يخصصه حديث البراء ، فالخاص يقضي على العام ، أما الدليل الثاني : فهو فاسد الاعتبار ، إذ يعارض حديث ناقة البراء ، وناقة البراء لم تكن بيد أحد ، وكان إتلافها ليلا
مناقشة أدلة الفريق الثاني :
أن المرسل للدابة متعد ليلا ، غير متعد نهارا ، وذلك لأن العادة أن ترسل الدواب نهارا ، والعادة محكمة
مناقشة أدلة الفريق الثالث :
1- أن حادثة النفش من شرع من قبلنا ، وهو محل خلاف
2- أن حديث ناقة البراء منسوخ بحديث (( العجماء جبار )) ويجاب عنه بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال مع الجهل بالتاريخ
الترجيح :
الذي يظهر للباحث أن القول الثالث هو أرجح الأقوال ، وأولاها بالصواب ، لقوة أدلته ولما ورد على أدلة الأقوال الأخرى من مناقشة
وقد اختاره جمع من المحققين كابن القيم ، والشوكاني ، وغيرهم
المسالة الثانية : هل التعويل في المسألة السابقة في وجوب الضمان الليل أو العادة ؟
والمعنى أنه لو تعود أهل بلد إرسال البهائم وحفظ الزرع ليلا دون النهار ، فهل ينعكس الحكم فيجب الضمان نهارا لا ليلا أم لا ؟
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين :
القول الأول : أن المعول عليه العادة ، إتباعا لمعنى الخبر ، والعادة ، وهو قول الشافعية
القول الثاني : أن المعول عليه كونه ليلا ، لأن هذا العرف نادر فلا يعتبر به في تخصيص الحديث السابق ، وهذا قول الحنابلة
سبب الخلاف :
الذي يلوح لي أن سبب الخلاف هو هل الحديث وارد لتقرير واقع معين ، يبين فيه من المفرط في ذلك الواقع وعليه يتحمل الضمان ، أم هو حكم يبين فيه من يتحمل الضمان ، ومتى ؟
والظاهر أن الراجح الأول ، وأن الحديث خارج مخرج الفتوى لمن كان حاله كحالة هؤلاء ، في إرسال المواشي وحفظها ، بدليل المعنى ، وتحكيم العادة
ونظير هذه المسألة القسم الواجب للمرأة لو كان يكتسب ليلا ، ويأوي إلى أهله نهارا ، لا نعكس الحكم في حقه ، مع أن عماد القسم الليل
المسألة الثالثة : هل الزرع وغيره سواء في وجوب الضمان ؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنه لا يضمن إلا الزرع والحرث وهو المشهور عن مالك ، ورواية عن أحمد اختارها الموفق
القول الثاني : تضمن الأموال دون الدماء ، وهو مروي عن مالك ، وقول في مذهب أحمد
القول الثالث : يضمن الجميع من الأموال والدماء وهو قول الشافعية وبرواية عن أحمد هي الصحيح من مذهبه
الأدلة :
استدل الفريق الأول : بأن الأصل في إتلافات البهائم ، أنه لا شيء فيها وخص الدليل النفش وهو الرعي ليلا فيبقى ما عداه على الأصل في كونه هدرا
أما الفريق الثاني فلم أقف لهم على دليل ، ولعل مأخذهم أن الأصل هو كون شأن الأموال واحد ، سواء كان زرعا أو غيره
واستدل الفريق الثالث بحديث ناقة البراء ، وفيه (( أن ما أفسدت المواشي بالليل فهو مضمون عليهم )) فكل ما أفسدته بالليل فمضمون بنص الحديث ، وذلك لأن ما تفيد العموم المستغرق لكل ما دخلت عليه
المناقشة :
يناقش دليل الفريق الأول بأن المخصوص ليس هو النفش ؛ لأن من شرع من قبلنا ، فهو غير متفق على التخصيص به ، ولكن المخصوص هو إفساد الليل لحديث البراء
أما الفريق الثاني فيناقش ما يمكن أن يستدلوا به : بأنه كما أن الشأن في الأموال واحد فالشأن في الإفساد واحد
الترجيح :
الذي يظهر للباحث أن الرأي الثالث أقرب الآراء إلى الصواب ، لقوة دليله وعمومه وقد اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية”
ما ذكر من الآراء هنا عن اختلاف المسئولية بسبب الليل أو النهار كلام خاطئة فالمسئولية موجودة فى كل وقت والروايات لا تصح فى الموضوع لأن فى وسط النهار أوقات راحة كما قال تعالى “وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة”وهناك وقت للصلاة ” إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ” ومن ثم فهناك أوقات نهارا لا يمكن أن يكون الإنسان فيها ممسكا للحيوانات
ومن ثم فالخطأ ارتكب نهارا أو ليلا فيه حكم ولكن الواجب على القاضى معرفة المتسبب فى الخطأ ففى أحيان عديدة قد لا يكون صاحب اليد بل غيره
الخاتمة :
استعرض الباحث في بحثه عددا من المسائل :
1- فتناول المسئولية عن الحيوان إذا كان بيد أحد ، وأن الأصل في هذا الباب الضمان ، إلا إن خرج الحيوان عن تحكمه
2- وتناول المسئولية عنه إذا لم يكن بيد أحد ، وأن الأصل فيه أنه هدر ، إلا إذا وجد تعد أو تفريط من مالك الحيوان
3- وبين الباحث حد التعدي والتفريط ، وحكم إتلاف الزرع
وقد ظهر للباحث بعد عرضه لهذه المسائل أن اختلاف الفقهاء لم ينشأ عن فراغ ، وإنما كان لكل مذهب حظه من الأثر والنظر وأن من أهم أسباب اختلاف الفقهاء ما يظهر من تعارض النصوص واختلافها ، وهذا الاختلاف والتعارض إنما هو في نظر المجتهد وليس هو في الواقع ونفس الأمر { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } ، وقد بين أهل العلم كيف يتعامل مع ما يظهر من تعارض النصوص في أصول الفقه ، ومصطلح الحديث ومما ظهر للباحث أنه يستحق البحث قاعدة المباشرة والسبب في الإتلاف والجناية وأثرهما في الضمان