مقدمة (التفسير الكاشف) ومؤشرات على المنهج التفسيري للشيخ محمد جواد مغنية

الشيخ محمد جواد مغنية من علماء لبنان ولد سنة 1322 هج الموافق 1904م في أحدى قرى جبل عامل، درس على المرجع الشيخ حسين مغنية، ثمّ سافر إلى النجف ودرس على عدد من العلماء منهم السيد الخوئي، أنهى دراسته وعاد إلى لبنان وتوفي في 19 محرم 1400هج الموافق 1979م، نُقل جثمانه إلى النجف وصلّى عليه السيد الخوئي، دُفن في أحدى غرف ضريح الأمام علي (ع)، له الكثير من المؤلفات منها كتابه (التفسير الكاشف).(2)

في مقدمة كتابه (التفسير الكاشف) يتكلم عن الدافع لتأليف الكتاب، يقول: ألّفت في العقيدة وأصولها سلسلة من ثمانية كتب صغار، شجعني انتشار السلسلة على تأليف كتب أكبر وأوسع، ودفعت بي مشيئة الله تعالى وتوفيقه إلى تأليف موسوعة فقه الإمام جعفر الصادق (ع) ستة أجزاء كبار، أغراني نجاح الموسوعة إلى تأليف تفسير القرآن الكريم الذي أسميته (التفسير الكاشف). وقد تمّ بتوفيق الله وفضله هذا الجزء – الأول – الذي أقدم له. تكلّم في المقدمة عن معنى التفسير لغة واصطلاحا قال: التفسير في اللغة: بمعنى الاستبانة، وفي الاصطلاح: علم يُبحث فيه عن معاني ألفاظ القرآن وخصائصه. ولابد لعلم التفسير من معدات ومؤهلات، منها العلوم العربية بشتى أقسامها، وعلم الفقه وأصوله، وعلم الحديث، وعلم الكلام، ومنها كما يرى البعض علم التجويد والقراءات.

عبارة الشيخ محمد جواد مغنية الأخيرة نستوحي منها، أنّه لا يعدّ علم التجويد والقراءات من معدات ومؤهلات علم التفسير. هذه الرؤية يتوافق عليها جمهور علماء الشيعة من علماء الإمامية، والسبب عندهم أنهم يرون عدم التواتر في القراءات أي توجد قراءة واحدة للقرآن وليس قراءات، ((والمعروف عند الشيعة أنّها غير متواترة بل القراءات بين ما هو اجتهاد من القارئ، وبين ما هو منقول بخبر الواحد. واختار هذا القول جماعة من علماء أهل السّنة)).(3)

قد يهتم المفسّر بالقراءات لعلاقتها بالإعراب، الاهتمام بالإعراب مدخلا للقراءات لكنّ جمهور علماء الشيعة متوافقون بعدم التواتر في القراءات. من هؤلاء السيد مصطفى الخميني في تفسيره (تفسير القرآن الكريم)، أنّ التنوع ليس من باب تنوع القراءات، لأن قراءة القرآن واحدة منذ النزول إلى اليوم، بل من جهة المرجّحات الاعتبارية والاستحسانية، أي بناء على الموقف الشخصي للقارئ.(4)

يرى الشيخ محمد جواد مغنية، أن هناك شيئا آخر يحتاج إليه المفسّر، وعنده هو أهم وأعظم من كل ما ذكره المفسّرون في مقدمة تفاسيرهم، يقول:

لم أرَ من أشار إليه وقد اكتشفته بعد أن مضيتُ قليلا في التفسير، وهو أن معاني القرآن لا يدركها ويعرف عظمتها إلّا من يحسّها من أعماقه، وينسجم معها بقلبه وعقله، ويختلط إيمانه بها بدمه ولحمه، واستشهد بقول الإمام علي (ع): ذاك القرآن الصامت، وأنا القرآن الناطق. وأضاف: أن المفسّر الذي لا يأتي بجديد لا يملك عقلا واعيا، وإنّما يملك عقلا قارئا وبحكم رؤيته هذه وصل إلى نتائج منها:

أنّه أيقن وهو يفسّر القرآن أنّه لا إيمان بلا تقوى، وأنّ الجّنة حرام إلّا على من جاهد وضحّى في سبيل الحق، وأنّ جميع أصول الإسلام وفروعه ترتبط بالحياة ارتباطا وثيقا. وتوصل إلى نتيجة أنّ أجهل الناس بحقيقة الإسلام ومراميه هم المنتمون إليه. وذكر أن كلّ مفسّر لا بدّ وأن يمتلك مؤهلات علم التفسير من الاحاطة بعلوم اللغة العربية وعلم الفقه والحديث.. إلى غير ذلك من العلوم التي تؤهل المفسّر ليكون مفسّرا من الناحية العلمية وضرورة أن يمتلك المفسّر مؤهلات شخصية كالشعور بالمسؤولية والوعي الذي يتناسب مع العصر الذي يعيش فيه، كي يستطيع المفسّر الربط بين ما يحصل من تقدم بالعلوم المختلفة التي لها علاقة بالتفسير.

أرى وجود مفسّرين استفادوا من التقدم العلمي في زمانهم، منهم مؤلّف تفسير الميزان السيد محمد حسين الطباطبائي، قال: هناك مسميات مادية ذُكرت في القرآن مثل السراج والميزان والسلاح وغيرها هذه المسميات محكومة بالتغير والتبدل في المعنى حسب تبدل الحوائج، فالسراج أول ما عمله الانسان إناء فيه فتيلة وشيء من الدهن للاستضاءة به في الظلمة، ولم يزل يتكامل حتى بلغ اليوم السراج الكهربائي. وكذا الميزان حتى وصل اليوم لتوزين الحرارة مثلا، والسلاح سابقا والسلاح المعمول اليوم إلى غير ذلك من المسميات، المسميات بلغت في التغير إلى حيث فقدت جميع أجزائها السابقة ذاتا وصفة والاسم مع ذلك باقٍ، لأنّ المراد في التسمية هو الغاية لا الشكل والصورة فما دام غرض التوزين أو الاستضاءة أو الدفاع باقيا كان اسم الميزان والسراج والسلاح وغيرها باقيا.(5)

النتائج التي توصل إليها الشيخ مغنية أثناء تفسيره للقرآن، نتائج سليمة، لكن من النتائج التي أشار إليها، قوله:

أيقنت وآمنت بأنّ أجهل الناس بحقيقة الإسلام ومراميه هم المنتمون إليه.

لا اتفق مع الشيخ محمد جواد مغنية في هذه النتيجة، لأن التعميم يصادر حتى جهود الشيخ مغنية نفسه، وغيره من العلماء الذين وظّفوا مواهبهم وطاقتهم لخدمة الإسلام والمسلمين، من فقهاء ومفسرين ومجاهدين وعلماء في علوم مختلفة.

يصف الشيخ مغنية المفسّر، أنّه يعبّر عن فهمه وتصوره لمعاني القرآن ومقاصده كما هي في ذهنه، لا كما هي في واقعها. أي المعيار هو العقل عند المفسّر، أرى نتيجته هذه واقعية. وتؤشر على الوعي الكبير للشيخ مغنية، بناء على هذه النتيجة نرى التنوع في التفسير والتجديد المستمر فيه حسب اجتهاد وقدرات المفسّر واستفادته من تطور العلوم في عصره لتوظيفها في خدمة التفسير وليس العكس.  وقد أشار إلى ذلك السيد محمد حسين الطباطبائي في مقدمة الميزان، إذ أن البعض يعد المكتشف من العلوم حقيقة لا يمكن الطعن بها، ولا يتصور القائل بذلك احتمال الخطأ في المكتشف من العلوم، أو احتمال تبدل المعلومة في المستقبل بناء على مكتشف جديد بسبب التقدم في العلوم، إنّ حمل معاني الآيات على المكتشف من العلوم لا يعدّ تفسيرا، بل اسماه السيد الطباطبائي تطبيقا، يقول:

إن تحميل ما أنتجته الأبحاث العلمية أو الفلسفية من خارج على مداليل الآيات فتبدل به التفسير تطبيقا وسُمّي به التطبيق تفسيرا، وصارت بذلك حقائق من القرآن مجازات، وتنزيل عدة من الآيات تأويلات. (6)

من رؤى الشيخ محمد جواد مغنية في مقدمة تفسيره، وهي مبادئ سار عليها في منهجه يقول: أن سور وآيات القرآن الحكيم ترتبط جميعها برابط مشترك وهو الدعوة إلى أن يحيا الناس، حياة طيبة يسودها الأمن والعدل، ويغمرها السلام. إنّ أسلوب الدعوة في القرآن يقوم على الحكمة والموعظة الحسنة، بمعنى أن القرآن يخاطب القلب والعقل، إذ يعرض في دعوته إلى الله بدائع المخلوقات وعجائب الكائنات، مع تحذير للمشاغبين والمعاندين من سوء العاقبة والمصير ويضرب لهم الأمثال من الأمم السابقة، كما فعل شعيب مع قومه، فإن أصرّوا على العناد تركهم وشأنهم. تطرق الشيخ محمد جواد مغنية كذلك في مقدمة تفسيره إلى ركائز الدعوة إلى الحياة الطيبة، مستشهدا بآيات من القرآن الكريم، وعلى ضوء هذه الركائز قام بتفسير القرآن المجيد، نذكر هذه الركائز باختصار:

إنّ الإنسان لم يوجد في هذه الحياة صدفة ومن غير قصد. إنّ الله سبحانه لم يترك الإنسان تتحكم فيه الأهواء والنزوات، بل اختطّ له طريقا سويا لا يجوز أن يتخطاه ويتعداه. مسؤولية كل إنسان صيانة الأمن والنظام، ومَنْ أخلّ به وسعى في الأرض الفساد عوقب بأشدّ العقوبات في الدنيا، وله في الآخرة عذاب أليم. كل إنسان له قدسيته الانسانية، حتى ينتهك هو حرمة نفسه بارتكاب جريمة ترفع عنه تلك القدسية والحصانة الانسانية. العلاقات بين الناس تقوم على أساس حصانة كرامة كل فرد من غير فرق بين الذكر والانثى والأسود والابيض والغني والفقير، من أي ملّة كان ويكون. إنّ الإيمان بالله ونبوة محمد (ص) واليوم الآخر وما إلى ذاك من الأصول والفروع ليس مجرد شعار ديني يرفعه القرآن، بل تقترن بالعمل الصالح.. وهذا دليل على أنّ أية دعوة لا تمت إلى الحياة بصلة فما هي من الدين في شيء. أخيرا يقول: وعلى ضوء هذه الركائز حاولت أن أفسّر آي الذكر الحكيم.

يتكلم الشيخ العلّامة محمد جواد مغنية في مقدمة تفسيره كذلك، عن الضوابط العامة التي يجب أن يسير المفسر في ضوئها، كي يسير التفسير في الطريق السليم، يقول: المنهج الذي اتبعته في التفسير يتألف من الضوابط التالية:

نظرت إلى القرآن على أنه كتاب دين وهداية، واصلاح وتشريع يهدف إلى أن يحيا الناس جميعا حياة تقوم على أسس سليمة؛ يسودها الأمن والعدل والرفاهية. اهتمّ جماعة من المفسّرين القدامى باللغة، وأطالوا في بيان السّر لإعجاز الكلمة والأسلوب. يقول: لم أتعرّض لشيء من هذا النوع. وإذا كان لكل تفسير لون يغلب عليه، فإن اللون الذي يغلب على تفسيري هو عنصر الإقناع بأنّ الدين يستهدف خير الانسان وكرامته وسعادته وكي أصل إلى هذه الغاية حاولت جهدي أن يجيء الشرح سهلا بسيطا واضحا. اهتم المفسّرون القدامى بالتراكيب الفصيحة، والمعاني البليغة بناء لحاجة عصرهم اتجهت في تفسيري لإقناع الجيل بالدين، وأنّه يسير مع الحياة ولا يعني هذا أني أغفلت الجهات النافعة التي تعرّض لها المفسرون الكبار. خاصة المشكلات الفلسفية كما خصصت في الغالب لكل آية فقرة بعنوان اللغة لتفسير بعض المفردات غير المألوفة، وفقرة أخرى بعنوان الإعراب لبيان بعض المشكلات النحوية، أما علم البيان والبديع فقد تركته لكشاف الزمخشري وللأندلسي الغرناطي في كتابه البحر المحيط. عدّ الشيخ مغنية الاسرائيليات في بعض التفاسير خرافة. تجاهل الروايات في أسباب التنزيل إلا قليلا منها. لم يهتم بتفسيره في ذكر العلاقة والمناسبة بين الآيات، وذكر السبب لأن القرآن نزل منجما. يقول:

اعتمدت في تفسير الآية على حديث ثبت في سُنّة الرسول (ص). فإذا لم يكن حديثا من السُنّة اعتمدت ظاهر الآية وسياقها، إذا تعارض ظاهر الآية مع حكم العقل وبداهته أوّلت اللفظ بما يتفق مع العقل، باعتباره الدليل والحجة على وجوب العمل بالنقل. إذا تعارض ظاهر اللفظ مع اجماع المسلمين في كل عصر وبلد على مسألة فقهية حملت الظاهر على الإجماع. أقوال المفسّرين لم يتخذ منها حجة قاطعة بل مؤيدا ومرجحا لأحد الوجوه إذا احتمل اللفظ لأكثر من معنى. أخيرا يعتذر الشيخ محمد جواد مغنية في المقدمة من الأخطاء المطبعية.

من خلال قراءتي لمقدمة تفسيره، أشخص منهجه التفسيري، أنّه يعتمد المنهج العقلي مع توظيف أو عدم الاستغناء عن المناهج والاتجاهات التفسيرية الأخرى، لتوظيفها مع العقل في تفسير الآيات، واعتماد المنهج العقلي مؤشر على أنّ المفسّر فقيها مجتهدا، وقد يكون عارفا ومجتهدا في علوم أخرى.

المصادر:

(1): محمد جواد مغنية، التفسير الكاشف، م1، المقدمة، ص5 – 17 ، مؤسسة دار الكتاب الإسلامي، قم، الطبعة 4، 1438 هج /2007م .

(2): الموسوعة الحرة، محمد جواد مغنية، www.ar.wikipedia.org.

(3): أبو القاسم الموسوي الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص137، ط4، الكويت ، 1979م.

(4): علي جبار الفتلاوي، المنهج التفسيري للسيد مصطفى الخميني، ص159 – 160 ، دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة، 1442هج/2020م .

(5): محمد حسين الطباطبائي، الميزان، ج1، المقدمة،  ص9 ،ط1، دار الأضواء، بيروت، 1431هج/2010م.

(6): المصدر نفسه، ج1، المقدمة، ص8.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *