أحياناً مسألة صغيرة تغيّر أقدارنا, فكيف لو كانت ترتبط بعاقبتنا؟ و كما أشرنا في الحلقة الكونيّة التي نشرنا إعلانها أمس؛ بأن الحياة أحداث و قضايا تُشلكها مجموعة مؤثرات وعوامل قد تلتقي بعضها مع البعض لتشكل صميم حياتنا و مصيرنا، و تلك الأحداث تشمل كل مجالات الحياة الإنسانية (الاجتماعية، والأسريّة، والعمليّة، والتطوعيّة) و الجمادات و المخلوقات و العوامل الأخرى باعتبارها تتداخل بنسب معينة بحسب مدى قرب أو بُعد تلك الموجودات و المخلوقات من تأثيرات تلك الحوادث, وهناك نوعان من الأحداث في الوجود: أحداث يتحكم بها الأنسان، وأحداث كونية خارجة عن إرادة الأنسان ويتم التحكم بها من خلال إنعكاسات العمل الجمعي و ليس إنسان واحد و تدخل ضمن السنن الإلهية و القضاء و القدر!
هذا بشكل عام .. لكنني و بفضل إستاذي الصدر ألأوّل إكتشفت فوق كل ذلك .. بأنّ لقمة الأنسان و (رزقهُ) هو المنطلق الأهمّ لرسم حياة سعيدة أو شقيّة للفرد أو المجتمع ككل من خلال تربية أولاد صالحين على لقمة الحلال, فلو كان عيشهم مختلط بالحرام أو مشوباً به كان له تأثيرٌ كبير و مباشر على روح و أخلاق و مصير و إبتلاآت الأنسان و المجتمع ككل و هنا تكمن خطورة التفاعل في كيفيّة إدارة الحياة لتشكيل الأحداث, فقد حكى لي الشهيد الفيلسوف محمد باقر الصدر(قدس)(1) قصّة وقعت زمن المرجع الكبير المُتقى حقاً الشيخ الملا آخوند الخراساني(2) تخصّ صبيّاً كان إبن أحد مشايخ الفرات الأوسط, خلاصتها؛ أن ذلك الطفل كان يرى حقيقة الناس و بواطنهم لا ظواهرهم البشرية العاديّة, فكان كُلّما حضر مضيفهم شخص, كان الصّبي يفضح حقيقة أمره و شخصيّته الحقيقية, فكان ينعته بصفته الحقيقية ككونه مثلاً كلب أو ذئب أو ثعلب أو خنزير و هكذا .. ممّا كان يُسبب على الدوام لوالده و عائلته أحراجاً شديداً و مشاكل مع الضيوف ألّذين كانوا يحضرون و ينعتون الطفل بفاقد الأدب و التربية, رغم إنه كان يقول الحقيقة ويكشف صفات الناس الباطنية, و هكذا كان ينعت الآخرين حين يَمرّ بالسوق حتى ضاق أباهُ وأقربائه به, و لا يستطيعون هدايته .. إلى أن أخذوه للنجف ذات يوم عند السيد الآخوند و كان وقتها المرجع الأعلى للأمة الأسلاميّة, و طرحوا عليه تلك المشكلة و كونه يسبب لهم الإزعاج و الضيق مع الناس, حتى في مجلس الآخوند أباح حقيقة بعض الجالسين في محضره!
فسأل الآخوند والد الطفل, و ماذا تريد ألآن؟
قال الأب : أريد خلاص إبني من هذه الحالة!
فأجاب الشيخ الآخوند ؛ هذه بسيطة جدّاً, وأمر على الفور خادمه؛ بآلذّهاب للسوق و جلب (شراء) و جبة طعام (كباب)؟
و لما أحضرَ الطعام وضعوه أمام للطفل و أمره الشيخ الأخوند بأن يأكل منه, و عندما شبع و إنتهى .. سأله السيد الآخوند (رض) على الفور؛ هل ترى شيئا غريباً على من حولك .. كما كنت تشهدهم على حقيقتهم من قبل ؟
أجاب الطفل؛ لا .. الكل سواسي كآلبشر !
عندها إلتفت الشيخ للوالد و قال له: خذ إبنك لقد فقد بصيرته بعد ما أبتليَ بلقمة الحرام و هكذا تفعل لقمة الحرام بآلأنسان.
فحذاراً أيها الناس, لأني حين سألت آلصّدر مُستوضحاً وضعي لكونيّ كنت وقتها موظفاً في وزارة حكوميّة و أعمل في التعليم بمركز التدريب المهني, فهل راتبي حلال أم لا؟ قال : لا بأس إن كنت تؤدي عملك بشكل يرضي الله و له نتائج طيبة خصوصاً بمجال (التدريس) و تربية الناس, فلا إشكال ما دمت تجتهد و لا تضيّع الوقت إلا بتأدية عملك.
ثمّ تضاحكنا حين قلت له: و كيف حال الرؤوساء و آلوزراء و المدراء الذين يتمّ تعينهم حزبيّاً و بآلواسطات (المحاصصة) وو..إلخ!؟ قال(رض): هؤلاء يخرّبون بيوتهم و بيوت الناس من حيث يعلمون أو لا يعلمون, لأنهم لا و لن ينالوا السّعادة في حياتهم و آخرتهم لأنّ مناصبهم ورواتبهم ليست من حقّهم خصوصاً إذا كان هناك من هو أوجب منهم .. إلى جانب أنّهم لا يقومون بواجبهم لأنهم بآلتأكيد ليسوا في المكان المناسب ولا يمتلكون المؤهلات الإدارية و الفنية اللازمة و هناك بآلتأكيد من هو أفضل منهم أمانة و كفاءة, لهذا لا فلاح و لا مستقبل لهكذا أمة .. و لهذا قتلوه لأنه كان الحق, وهذا واقعنا الذي إزداد سوءاً في عراق الجّهل و المآسي و آلفساد و الكذب, و لا أدري ماذا هو حكمه الآن على وضع العراق!؟
تصوروا؛ سعيتُ بعد جهاد 50 سنة و خدمة سنوات في وزارة الكهرباء ورغم المرض سعيتُ للحصول على التّقاعد مُؤخراً و بعد ما صرفت أكثر من 10 ملايين وبآلطرق الأصولية .. لكن الجهات ذات العلاقة في الحكومة رفضت المعاملة بل وحوّلوها إلى (لجنة المسائلة و العدالة) بينما أنا العراقي الوحيد الذي لم ينطق بكلمة (رفيقي أو سيدي) وفوقها آلرّفاق يستلمون الملايين والمشتكى لله ولا حول ولا قوة إلا بآلله, و لا أدري لعلّه كان خيراً لي لعدم وجود لقمة حلال في العراق, و قد قلت لصديق له إطلاع بالأمر في رئاسة الوزراء؛ [وهل تعتقد بأنّ الله سيترك هذا الظلم و يهنأ العراق و العراقيون؟] والله الأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محمد باقر الصدر ليس مجتهدا و مرجعا كما آلمئات و الآلاف في الحوزة بعد إصدار رسالة عملية؛ بل أكبر و أكثر من ذلك بكثير, حيث قال بشأن إصدار رسالته العملية؛ لم أصرف حتى 1% من التفكير لأخراجه وإكتفيت بآلمصادر, وفوق هذا سأله ممثل صدام: أنت
لا تعمل و تعتاش على أموال الخمس و الزكاة, فأجابهم: لا .. إنما أعيش من مردود مؤلفاتي وكتبي والخُمس لشؤون آلطلبة والفقراء.
(2) هو العارف الفقيه والمرجع الشيخ محمد كاظم بن الملا حسين الهروي الخراساني النجفي، المعروف بالآخوند(ت1911م).
أهمّ عمل قام به هو إعداد جيش جرار فاق عدده جيش الدولة العثمانية أنذاك لقتال الروس وإخراجهم من إيران عام 1906م.