قراءة في نهج ألبلاغة (ألجزء ألأول وألثاني)

قراءه في نهج البلاغة

ألجزء ألأول

تتصف الثقافة العربية السائدة ألآن بانها ثقافة “انترنت” وقنوات تلفزيونية، وبكلا وجهيها التعلمي والتعليمي. وبما لا يدعو الى الشك ان السائد والاكثر جدلا في هذه الثقافة المسطحة هو في محوريها الديني والسياسي. واذا ركزنا على المحور الديني فنلاحظ ومع الاسف ان الموضوعات الخلافية في الدين هي التي يهتم بها المسلم العربي وخصوصاً الخلاف السني الشيعي. كذلك فان المحور السياسي وليس ألشرعي في الخلاف السني الشيعي هو بؤرة الشغب الطائفي حيث بات هذا الموضوع النقطة المركزية الرابطة بين محوري ألثقافة ألسائدة اعلاه، الديني والسياسي.

 

وباختصار، يرون السُنة المعتدلون وهم اغلبية المسلمين ان الامام علي بن ابي طالب (ع) (وسوف ادعوه في هذا المقال بالامام) ليس إلا الصحابي الجليل من المسلمين الأوائل وألذي أصبح فيما بعد الخليفة الراشد الرابع وحسب استحقاقه الجهادي/النضالي في الاسلام وانه قضى كل حياته كأخاً حميماً ورفيقاً وعوناً مسالماً ومخلصاً ومحباً لدينه ولجميع الصحابة ان كانوا رعية او امراء متصدرين امر المسلمين او خلفاء ممن سبقوه. اما مايذكر من خلاف أو حتى بغضٍ بينه وبين الصحابة، وألكلام هنا للمسلمين ألسنة، ماهو الا إدعاء شيعي لا صحة له. وبالمقابل، يرون الشيعة (الامامية) ألإمام هو اول المسلمين وصاحب الدور الرئيسي الرائد (بعد النبي-(ص)) في تثبيت دعائم الاسلام. فبالاضافة الى صفاته ومناقبه المتفوقة على جميع الصحابة كتبوِئِهِ سيادة اهل بيت النبي (ص) المطهرين من قبل الله تعالى، فهو المُعَينُ من السماء اماماً ووصياً وخليفةً للرسول الكريم (ص). أما ما حدثَ من إجحافٍ ونكران لهُ ولأهل بيتهِ، وألكلامُ هنا للشيعةِ، ليس إلا ظلماً وتصرفاً منحرفاً من قبل بعض ألصحابةِ مهما حاول ألمسلمون ألتستر عليهِ وتبريرهُ.

 

هذه “القطبية” الواضحة في الاعتقاد والتفكير انتجت اشكالاً مختلفة من الاضطراب المجتمعي الثقافي والسياسي والديني حتى وصلت الحالة الى وقعِ السيف وسيل الدماء عبر تأريخنا الاسلامي ولحد الأن. فكل من الطرفين يدعي شيئا في الامام مستندين الى احاديث وروايات منسوبة الى النبي (ص) او الصحابة او حتى لغيرهم. وسؤالي المركزي هنا: ماذا لو حاولنا أن نتقصى الحقيقة مما يقوله الامام نفسهُ عن نفسهِ وعن صحبته وعن الاحداث التي عاشها في حياته؟ أما ألأجدر بنا أن نقرأَ “نهجَ البلاغةِ” ؟ هذا إذا إتفقنا إن محتوى نهج إلبلاغة هو تراثٌ صحيح عن ما قالهُ ألإمام.

 

كتاب نهج البلاغة يحوي على ماجُمع من خطب ورسائل وحوارات ومقتطفات كلامية تُنسبُ الى الامام. تم جمع محتواه من قبل العلامة السيد الشريف الرضي في رجب سنة ٤٠٠ للهجرة، اي قبل اكثر من الف سنة. اما النسخة التي اعتمتُ عليها في بحثي هذا فهي بتنقيح وشرح الشيخ محمد عبدو، في اواخر القرن التاسع عشر ونشرْ مكتبة الالفين الكويتيه في سنة ١٩٨٥. وهكذا يكون هذا الكتاب مصدرا موثوقاً بهِ ومناسباً لغرضنا وللأسباب التاليه:

 

يقول الناشرُ في مقدمةِ ألكتاب … “ويكفيهِ (اي الامام) فخراً ان عباقرة العلم من مختلف المذاهب الاسلامية تعرضوا لشرحهِ وتفسيرهِ (آي كتاب نهج ألبلاغة)”. أي إن نصوص هذا ألكتاب قد قُرِأَتْ وقُبِلَتْ وشُرِحَتْ من قبل رجالٍ ثُقاتٍ من مختلف ألمذاهب ألإسلامية. فألشريف الرضي (جامع محتوى الكتاب) هو من سلالة الامام وكان نقيباً للطالبيين ومرجعاً دينيا شيعياً لذلك من المستبعد ان يدلس في محتوى كتابٍ ينسبهُ، وحسب معتقده هوَ الى امامه ووصي نبيهِ (اي الامام). كذلك، إن الشيخ محمد عبدو (منقح ومفسر الكتاب) هو مفتي الديار الاسلامية المصرية وأحد أهم شيوخ السنة المعتدلين ويُعد من المفكرين المجددين ويُعرف بدعوته الى تحرير العقل وتبني العلم في اكتساب المعارف. لهذا يأتي شرحهُ لمحتوى هذا الكتاب متصفاً، وعلى أقل تقدير بالمصداقية والحيادية.

 

اما بالنسبة لي فلا أدعي لنفسي شيئاً سوى أني قرأتُ محتوى الكتاب وتفسيرَه من قبل الشيخين اعلاه قرائةً جيدة ومركزةً على محاولتي لفهم مكانةَ ألإمام ألحقيقية قياساً بغيرهِ من المسلمين ورأيهِ هوَ بالصحابة والاحداث التي ألمتْ بهم في حياته وفي مقدمتها الخلافة ألإسلامية، وكل ذلك مستنداً على ما نُسبَ له من خطبٍ وأقوال. قرائتي هذه ترتكز على محورين، ألأول يخص مكانة ألإمام ؤأهل ألبيت في ألمجتمع ألعربي وألإسلامي أنذاك وألثاني يعني بموقف ألإمام من ألصحابة وتداول ألخلافة.

 

مكانة ألإمام واهل البيت في المجتمع ألعربي والإسلامي

 

من الملاحظات الواضحة والمميَزة لي في قرائتي هذه هي صفة الاعتزاز الموضوعي بألنفس في لغة الخطاب المستعملة من قبل الامام بما يدل، في رأيِ، على ثقتهِ بسموِ مقامهِ الرفيع وليس بمجرد تفاخرآً وتبجحاً جاهليِ ألنزعةِ. فعدا ما ينسب الى الرسول (ص) من نصٍ قرأني او حديث نبوي شريف، لم نقرأ او نسمع ان مثل هذا الخطاب يُنسبُ الى اي صحابي اخر ومنهم الخلفاء الثلاثة أللذين سبقوه.

 

أولاً، وتماشيا مع الثقافة العربية ألسائدة في ذلك الوقت، يُشيد الامام برفعة نسبه وهو في نفس الوقت نَسبُ الرسول الاعظم (ص) لعشيرة بني هاشم المعروفة بالشرف والعزة مقارنة بباق عشائر العرب وبغض ألنظر عن مكانتها الاسلاميه. في احدى مراسلاتهِ مخاطباً معاوية بن ابي سفيان، يتفاخر ألإمامُ وبشكل موضوعي برقي بني هاشم مقارنةً ببني أُميةِ وإن كانت ألأخيرة من سادات ألعرب:

 

“ولكن ليس أُميةُ كهاشمٍ، ولا حربٌ كعبد المطلبِ ولا ابو سفيان كأبي طالب ولا المهاجر كالطليقِ ولا الصريحُ كاللصيقِ ولا المحقُ كالمبطل ولا المؤمن كالمدْغل ولبئس الخلفُ خلفٌ يتبع سلفاً هوى في نار جهنم.”

 

وقال لاحد اصحابه يصف بها اهل البيت وهم خَيارُ بني هاشم:

 

“… وإنا لأُمراء الكلامِ وفينا تَنشَبتْ عُروقُهُ وعلينا تَهدَلتْ غصونهُ”

 

ومن كلام كثير ومُمَيز لهُ بما يخص منزلته واهل البيت مقارنة بسائر ألعرب ومقامهم المُمَيز ودورهم في الاسلام كجزءٍ لا يتجزأ من دور رسولهِ (ص)، تماشياً مع ما جاء في القرآن الكريم واقوال الرسول (ص):

“… عترتهُ (اي نحن عترة الرسول) خيرُ العتر واسرتهُ خيرُ الاسر وشجرتهُ خيرُ الشجر …”

 

” … نحن شجرة النبوة ومحط الرسالة ومختلف الملائكة ومعادن العلم وينابيع الحِكَم، ناصرنا ينتظر الرحمة وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة.”

 

“بنا اهتديتم في الظلماءِ وتسنمتمْ العلياءَ …”

 

يقول ألإمام كلاماً لا يحتاج إلى تفسير أو تأويل يؤكد فيهِ على أنهُ وأهل بيتهِ هم إمتداد لرسول ألإسلام (ص) ولهم ألدور ألأساسي كشركاء في ألرسالة ألإسلامية لا تقارن بأي بيت أخر من بيوتات ألصحابة. كذلك، نعرف إنَ هذا ألكلام أعلاه موجهٌ لأوائل ألمسلمين من ألصحابة في عصر صدر ألإسلام وليس لكفار قريش، مؤكداً وجود من هم أعداءُ ومبغضوا أهلَ بيت ألرسول (ص) من بين ألصحابةِ ؟

 

وقال في التحكيم بعد معركة صفين:

 

” … فاذا حُكمَ بالصدق في كتاب الله فنحن (وهنا يعني هوَ) احقُ الناس بهِ، وان حُكمَ بسُنةِ رسوله (ص) فنحن (أي هوَ) اولاهم بهِ …”

 

اقولُ، ان مثل هذا الكلام اعلاه لا يُسمح بهِ أن يُقال، وفي ألمفهوم ألديني، من قِبَلِ أحدٍ قط إلا أن يكونَ  هوَ من ألمرسَلين او على الاقل من أولياء ألله الصديقين وليس بمجرد صحابيٍ مهما بلغ مقامُهُ. وهذا ما يؤكدهُ ألإمام في أقواله ألتاليه بأن منزلة أهل ألبيت (وهوَ سيدهم بعد ألرسول) لا تقتصر على ألقرابة لرسول ألله (ص) بألمعنى ألبايولوجي والإجتماعي فقط وإنما هي (وكما يؤكد ذلك ألإمام) نتيجة لإختيار ربانيٍ لهؤلاء ألصفوةِ كأولياءٍ للهِ كُتِبَ على كافة ألمسلمين ألإعتصامُ بهم كجزءٍ لا يتجزأ من ألإعتقاد ألديني بألإسلام وبرسوله ألكريم (ص).

 

“… لايُقاس بآل محمد (ص) من هذه الأمة احدٌ ولا يُسَوى بهم من جرت نعمتهم عليهِ ابداً. هم اساس الدين وعماد اليقين، اليهم يفيءُ الغالي وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة …”

 

“… انظروا اهل بيت نبيكم فالزموا سمْتَهم وإتبعوا اثرهم فلن يخرجوكم من هدى … ولا تسبقوهم فتضلوا ولا تتاخروا عنهم فتهلكوا. …”

 

“… وخَلفَ فينا (اي النبي (ص)) راية الحق مَن تقدمها مَرَقْ، ومن تخلفَ عنها زَهَقْ … ألا انَ مثل آلَ محمد (ص) كمثل نجوم السماء اذا خوى نجمٌ طلعَ نجمٌ …”

 

أقول، عندما يوجهُ مثل كلامهِ هذا الى المسلمين الاوائل والصحابة المقربين ذو الرفعة العالية والجاه المرموق في المجتمع العربي آنذاك وفي الدور الرسالي الاسلامي ولم يسجل ألتأريخُ أي إعتراض او امتعاض من هؤلاء الصحابة على مثل هذا الكلام يؤكد على إقرارهم الجمعي بالمنزلة الخاصة لهذا الامام وأهل بيتهِ وألمدعومة من ألله ورسوله. وتأكيداً على إقرار ألصحابة، وليس بألضرورة إقرارهم لما ظهرَ بعد ذلك، على موقع أهل بيت ألرسول (ص) ألمُمَيز على ألمستوى ألمجتمعي وألديني يقول الامام في احدى رسائله الى معاوية، موَضحاً بعض ألمناقبِ ألخاصةِ لأهلِ ألبيت وكما يتداولها ألمسلمون كافة منذ ذلك ألوقت ولحد ألآن حيث جائت على لسانِ ألرسول ألأعظم (ص):

 

“… فإنا صنائعُ ربنا والناس بعدُ صنائعٌ لنا. … ومنا النبيُ ومنكم المكذب ومنا اسدُ الله ومنكم اسد الاحلاف ومنا سيد شباب اهل الجنة ومنكم صِبْيةُ النار ومنا خير نساء العالمين ومنكم حمالة الحطب في كثير مما لنا وعليكم. …”

 

إنَ هذه ألسطور ألبسيطة أعلاه توضح منزلة أهل ألبيت ألحقيقية وألإمام سيدهم بعد ألرسول (ص). كثيراً ما يردد ألمسلمون مثلَ هذه ألألقاب بدون ألتأمل ألمنصف لدلالاتها. فقد إستُشهِدَ ألعديد من ألصحابة ألأجلاء في معارك ألرسول (ص) ولكن ألحمزة بن عبد ألمطلب (عم ألإمام) هو ألوحيد ألملقب بسيد ألشهداء. وهناك ألكثير من شباب ألصحابةِ أللذين يستحقون نعمةَ ألله عليهم بألجنةِ ولكن يبقى ألحسن وألحسين (أولاد ألإمام) هم سيدا شباب أهل ألجنة. وكذلكَ هناك ألكثير من ألصحابيات ألمؤمنات ألصالحات ومنهُنَ أمهات ألمؤمنين (زوجات ألرسول ص) وتنفرد فاطمة ألزهراء (ع) (زوجة ألإمام) بلقبِ سيدةُ نساء ألعالمين وسيدةُ نساء أهل ألجنةِ. فهل ياترى أنَ محمداً (ص)، وكما يؤمنُ جميعُ ألمسلمين، وهو ألذي بُعِثَ رسولاً إلى ألعالمين “يوَزِعُ” هذه ألألقاب على أفراد عائلتهِ فقط دون أمرٍ أو إحاء من ألله تعالى؟ وهل يُعْقَلَ أن يبوح ألرسولُ (ص) من تلقاء نفسهِ إن ألله تعالى يرضى ويغضب لرضى وغضب إبنته فاطمة بدون علمٍ أو إيحاءٍ لهُ من ألله تعالى؟

 

وبوضوح أكثر ما كان للإمام الا وان يبين للمسلمين منزلتهُ الخاصة وموقعهُ الحقيقي في الاسلام والرسالة السماوية، فمن رسالة له لاحد ولاته على البصرة يقول :

 

“…وأنا من رسول الله كألصِنْو من الصنوٍ والذراع من العضد…”

وفي كلام اخر يقول:

 

“… إنما مَثَلي بينكم مثلُ السراجِ في الظلمةِ يُستَضيءُ بهِ مَن ولَجَها. …”

 

“… اللهمَ اني أولُ مَن انابَ وسمِعَ وأجابَ، لم يسبِقني إلا رسول الله (ص) بالصلاةِ …”

 

“… أيها الناسُ سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء اعلم مني بطرق ألأرض …”

 

بألإضافة إلى كل ما سبق، ألقراءة ألدقيقة لنهج ألبلاغة تبين بعض من كلام ألإمام ألذي يوحي بمعانٍ تفوق ألسياق المعتاد لكلام أيٍ من الناس سواء كان صحابياً جليلاً أم عالماً عبقرياً وما يتناسب مع زمانه ومكانه. بل يتعدى ذلك (إن إتفقنا إن هذا ألكلام حقيقة لهُ) حتى يرتقي لدرجة ألأولياء ألربانيين وألأوصياء ألمعينين من ألسماء وليس بمجرد أحد ألصحابة ألسابقين ألأولين. ولا أظن أن في تراثنا ألإسلامي مثل هذا ألخطاب من أي شخص آخر غير هذا ألإمام. فعلى سبيل ألمثال، يتضح في ألكثير من رسائل ألإمام أنهُ يدعو نفسهُ ب “ألإمام” بدلاً من أي لقبٍ آخر ولم يُروى عن أيِ خليفةٍ إن كان راشدياً ام غير ذلك أن يَنْعُتَ نفسهُ بهذا ألوصف ألمُمَيز. في ثلاثِ رسائل بعثها ألإمام إلى عُمالهِ على ألأمصار يقول فيها:

 

“… فقد بلغني عنكَ أمرٌ إن كنتَ فَعلْتهُ فقد أسخطتَ ربكَ وعصيتَ إمامكَ (أي هوَ) وأخزيتَ أمانتكَ. …”

 

“بلغني عنك أمرٌ إن كنتَ فعلتهُ فقد أسخطتَ إلهكَ وأغضبتَ إمامكَ. …”

 

“… ألا وإن لكل مأمومٍ إماماً يقتدي بهِ ويستضيء بنور علمهِ، ألا وإنَ إمامكم (ويعني هوَ) قد إكتفى من دنياهُ …”

 

في هذا ألصدد، أحب أن أوضح للقارىء إن لقب “ألإمام” له من ألمعنى وألدلالة ألخاصة جداً في ألمفهوم ألإسلامي وخصوصاً في ذلك ألوقت، بإختلاف ما هو ألحال في الوقت ألحالي. فقد جاء على سبيل ألمثال في ألقرآن ألكريم في وصف أو “جعْلِ” أبي ألأنبياء إبراهيم (ع) إماماً من قبل ألله تعالى. وكذلك فيما رُوِيَ في ألحديث ألشريف: “إنَ وَلَدَيَ هذين (أي ألحسن وألحسين (ع)) إمامان إن قاما وإن قعدا”.

 

بألإضافة إلى ذلك، هناك كلام خاص جداً يسترعي ألتأمل ألجاد فيهِ لإستنتاج ميزة فريدة في شخصية هذا ألإمام ألفذ ألا وهي ألعلمُ بما يخبئهُ المستقبل وألحكمُ بصيغة ألمطلق بما لا ينبغي لأي مسلم أن يدعيهِ. في خطبة له للخوارج يقول فيها:

 

“… وسيهلكُ فيَ صنفان، محبٌ مفرطٌ … ومبغضٌ مفرطٌ …”

وفي موقع آخر “هلكَ فيَ رجلان محبٌ غالٍ ومبغضٌ قالٍ”

 

وفي قولٍ له يستشهدُ فيهِ بحديث شريف للرسول (ص) بحقهِ:

 

“يا علي لا يُبغضكَ مؤمنٌ ولا يحبكَ منافقٌ”

 

أولاً، يتفق جميع ألمسلمون وبمختلف مذاهبهم على إنهُ لم يذكر ألتراثُ ألإسلامي إن أحداً من ألصحابة نال مدحاً أو مكرمةً أو منقبةً مباشرةً في نصٍ قرآنيٍ أو حديث شريف نوعاً وكماً كما نالهُ ألإمام. ففيما ورد أعلاه هناك تأكيدٌ مطلق وعلى لسان رسول ألله (ص) كأنهُ تنزيل محكم يعلن به وبكل صراحةٍ ان لا مكان للنفاق في خندق ألإمام بل وليس في خندق ألإمام إلا ألإيمان. أقول، وظمن ألإعتقاد ألإسلامي لا يصلُحُ أن يُنسب مثل هذا ألوصف إلا لأولياء ألله ألصالحين وأللذين تُشمُ فيهم رائحةُ ألعصمةِ من ألخطأ، وليس لصحابيٍ آخرَ قد يخطأ ويصيب.

 

بألإضافة إلى ذلك وفي رسالة بعثها لإبن عمهِ عبد ألله بن عباس يوبخهُ فيها لسوءةٍ إقترفها:

 

“… ولأضربنكَ بسيفي هذا ألذي ما ضربتُ بهِ أحداً إلا دخلَ ألنارَ”

 

كلام ألإمام ألعجيب هذا لإبن عباس يستحق قراءةً جلية لما يحملهُ من معنىً غريبآً. لو كان ما يقصده ألإمام أنْ لا أحداً يضربهُ بسيفهِ إلا وقتلهُ لكان ألقصد منه شدة ألأزر وقوة ألإمام ألمشهودة له ليس إلا. ولكن ليس هذا ماقالهُ ألإمام بل هو مؤكداً وبكل ثقةٍ بأن ألمقتولَ بسيفه داخلاً في ألنار لا محال! وهنا يأتي ألسؤالُ ألمهم: من أينَ وكيفَ علمَ ألإمام وبشكلٍ جازمٍ مَن يدخل ومن لا يدخل ألنار؟ هل يجوز لهاذا ألإمام أن يأخذهُ إيمانهُ وثقتهُ بعيداً لهذا ألحد من “ألغلو” ليتجاوز بهِ حدود أللهِ؟ أم هوَ جزءٌ من علمٍ تلقاهُ من ألنبي (ص) عن جبرائيل (ع) ؟ وألإحتمال ألثاني هو ألأصح.

 

لست ممن يدعي أو يؤمنَ بأن هذا ألإمام يعلم ألغيب أو ينطق بوحيٍ يوحى إليهِ ولكني أنقل ما ورثناه في تراثنا ألإسلامي. فإن قبلناه وصدقناه فعلينا أن نقرأهُ قرائة منطقية جادة وموازية لقرائتنا لما يُروى من تراثِ ألأنبياء وألأولياء ألصالحين ألآخرين أو نرفضهُ ونرفض ما يشبهه في تراثنا ألديني وألتأريخي. وفي كل ألأحوال لا نستطيع ان نقول إن مثل هذا ألإمام يدعي على ألله كذباً كذلك لم يحتوي تراثنا ألإسلامي على روايات تقول عكس ماإدعاه ألإمام او على أحدٍ ممن عاصروه أنكرَ عليهِ ذلك. مرةً أُخرى، إن كان هذا ألكلام ألموروث مُوَثقاً لهُ ولنفترضَ إن ألإمام قد “غالى” فيهِ فيما يخص موقعهِ ومقدرتهِ ألطبيعية، فلماذا لم يوجهَ لهُ إنتقادآً أو على ألأقل مشورة ممن سمعوه يدْعونهُ ألكَفَ عن هذا “ألغلو” ألمتكرر؟ لا أرى خياراً لي إلا وأن أقول إن كلامهُ ليس سوى موعظة وتذكير لهم وظمن إطار ما يتوقعوهُ ألصحابة منه ومعرفتهم بما لهاذا ألإمام من منزلة لا تقارن بأي صحابي آخر.

 

قراءة في نهج البلاغة

ألجزء ألثاني

 

موقف ألإمام من ألصحابةِ وتداول ألخلافةَ

ألمحور ألثاني في هذه ألقرائة يركز على توضيحٍ لموقف ألإمام من ألصحابة وما آلت إليهِ ألأمور ألدينية وألسياسية في حكم ألخلفاء بُعَيد وفاة ألرسول (ص). سوف أركزُ على ما حدثَ في عصر “ألراشدين” ومَن عاصروهُ منَ ألصحابةِ ألأوائل ذو ألأثر ألكبير في ألتراث ألإسلامي، ولست في صددِ نزاعهِ مع ألأمويين لأن ذلك ليس فيهِ مِن خلافٍ كبير عند ألمسلمين إلا ما ندر منهم مِنَ ألمتطرفين وألنواصبِ أللذين نصبوا ألعداء إلى أهل بيت ألرسول (ص).

 

إن قراءة سليمة لأقوال ألإمام وبقية ألتراث ألإسلامي بما فيهِ ألسُنة ألنبوية تبين جلياً إن موضوع ألولاية أو ألخلافة كان محسوماً بين ألمسلمين في عهد رسول ألله (ص) لِمَنْ عينهُ من بعدهِ. لذلك يؤكد ألإمام على دهشتهِ وخيبة ظنهِ ببعض ألصحابة حين تآمروا عليهِ وبايعوا أبي بكر بن قحافة. في رسالة لأهل مصر بعث بها ألإمام بيد ألصحابي مالك ألأشتر لما ولاهُ على مصر:

 

“… فلما مَضى (ص) تنازعَ ألمسلمون ألأمرَ مِن بعدهِ، فوألله ما كان يُلْقى في رَوعي ولا يخطرُ ببالي أن ألعربَ تُزْعِجُ هذا ألأمرَ من بعدهِ (ص) عن أهل بيتهِ، ولا أنهم مُنَحَوْهُ عني من بعدهِ، فما راعني إلا إنثيالُ ألناسِ عن فلانٍ (أي أبي بكرٍ)  يبايعونه …”

 

إذا أقرَ ألقارىءُ بتقوى وصدقِ هذا ألإمام فعليه أن يقرُ أيضآً إن ما قاله ألإمام هو ألصدق. ومما تجدر ألإشارة إليه أن ألإمام لا يدعي ولاية ألمسلمين إستناداً على صحبتهِ وقرابتهِ ألحميمةِ بألرسول (ص) بل على ألعكس نراهُ هو ألذي يستنكرُ أن تكون أحقية ألخلافة مستندةً على مثل هذه ألمقاييس بعكس ما تبجح بهِ بعض ألصحابة ألقريشيين كفضلٍ لهم على ألأنصارِ، بدلاً من مقياس ألإستحقاق ألشخصي.

 

“واعجباهُ أتكونُ ألخلافةُ بألصحابةِ ؤألقرابةِ”

 

علماً إنهُ وإن أُخِذَ ألأمرُ حينها بهذا ألمقياس أو ألمبدأِ (كما إدعاهُ ألقُرَشيون) لما آلتْ ألخلافةُ لغيرهِ حيث لا أحدٌ يستطيع أن ينافسهُ في قدمِ وشدةِ صحبتهِ وقرابتهِ برسول ألله (ص)، وما من أجملُ من وصفه ساخراً لتصرف مهاجري قريش:

“أخذوا ألشجرةَ وأضاعوا ألثمرةَ”

 

أي أنهم تفاضلوا بألنسب لقريش (ألشجرة) وأهملوا أو أزاحوا بني هاشم ومنهم أهل بيت ألرسول (ص) وهم خيرةُ قريش (ثمرة هذه ألشجرة). ولعلَ أهم ماذكر عن كلام ألإمام في هذا ألصدد هو خطبتهُ ألشهيرة وألمثيرةُ للجدل “ألخطبة ألشقشقية” وألتي أفصح فيها عن موقفهِ ألمعارضِ ألشديد (ولكنهُ ألمسالمِ) مِن موضوع ألخلافة وشرعيَتها وتقيم مَنْ تبَوَئَها دونهُ. هذهِ ألخطبة قد وضعت ألنقاط على ألحروف وبشكلٍ لا يقبل أي تأويلٍ آخرٍ سوى ألتعبير عن غضبهِ وخيبةَ أملهِ. فلغة ألإمام ومفرداتهُ فيها ألكثير من ألألم وألإمتعاض وخيبة ألأمل من طريقة تداول ألسلطة أو ألخلافة من قبلِ ألكثير من ألصحابة وخذلانهم لهُ وإزاحته عن موقعه ألمفروض له بطريقة تآمرية وتعسفية:

 

“أما وألله لقد تقمَصَها فلانٌ (وألمقصود بهِ أبو بكر) … حتى مضى ألأولُ (أي أبو بكر) فأدلى بها إلى فلانٍ (أي عمر) بعدهُ … فيا عجباً بينا هوَ يستقيلها في حياتهِ إذ عقدها لآخرَ بعدَ وفاتهِ …”

 

يقول ألإمامُ أن أبا بكرٍ تقَمصَ ألخلافةَ أي لَبَسَها عُنوةً كألقميص. ثم وكأنهُ يقول وإن قبلنا ذلكَ له  لكنهُ قد أدلى بها أي ناولها وبقرارٍ منه وحدهُ إلى عمر بن ألخطاب كوليٍ للعهدِ من بعدهِ، وكما يحدثُ في أيِ مملكةٍ أخرى ! وهنا يعقبُ ألإمام متعجباً لتصرف أبي بكرٍ ألمتناقض عما يُروى عنهُ إقرارهُ في حياتهِ إنه ليس بخيرِ ألمسلمين إستحقاقاً بألخلافةِ، وطلبهِ حينها من ألناس أن يُقِيلوهُ منها، لكنهُ أصرَ أن يُناولها لغيره بعد مماتهِ وبدون أي مشورةٍ أو شورى معَ ألمسلمين.

 

أما ما يخص عمر بن ألخطاب، وقبيل وفاتهِ إختار عمرُ ستة أشخاص، يزعمُ عمرٌ ويرفضُ ألإمامُ أن يكون هوَ احدهم، إذ ليس من ألإنصاف أن يقارنَ ألإمامُ بهم وهم أللذين يُشكُ في أهليَتَهم وحياديَتَهم في أن يختاروا خليفةً للمسلمين. ويبقى إعتزاز ألإمام ألموضوعي بموقعه ألريادي في ألإسلام يجعله يبوح وبدون أي تردد بأحقيته ألمطلقة بألوصاية بعد ألرسول (ص) وليس من ألعقل وألإيمان (وهذا رأي ألإمام) أن يُقارَنَ أو يُقْرَنَ بأي صحابي آخر. ففي حساب ألمنطق، لا تقارن أسبقية ألإمام ودوره في تثبيتِ ألرسالة وعلمه بباقي ألمسلمين، وبحسب ما جاء في كتب ألتراث. وأما في ألإيمان، فألموضوع بألنسبة للإمام هو إختيار رباني ووصية نبوية. ثم يوضح ألإمام بأن تداول ألسلطة (ألخلافة) تم بطريقة مقصودة لإزاحته حيث لم تكن مستندة إلى سُنةٍ أو وصية نبوية ولم تأخذ شكل ألشورى ألمتبجحِ بها ولم تعطي أي إعتبار للمؤهلات ألذاتية للمرشحين لمثل هذا ألموقع. حيث أجمع ألمتحالفون مسبقاً ضد ألإمام، وكما يصف هو ما حصل، على عدم ألتصويت له إما بدافع الضغينة له أو ألتَحَيُزَ لقريب له وغير ذلك من ألتصرفات ألغير شرعية أوأخلاقية، وهنا يتذرعُ ألإمام إلى أللهِ عنْما يدعيهِ ألمسلمون بألشورى، وليست هيَ في ألحقيقةِ سوى تقاسمٌ للسلطةِ. حيث يواصل ألإمام خطبتهُ ألشقشقيةَ فيقول:

 

“… حتى إذا مضى لسبيلهِ (أي وفاة عمر) جعلها في جماعةٍ زعمَ أني أحدهم فيا للهِ وللشورى … صرتُ أُقرنُ إلى هذه ألنظائرِ … فصغى رجلٌ منهم لِضِغْنِهِ ومالَ ألآخرُ لصِهْرهِ معَ هَنٍ وهَنٍ إلى أن قامَ ثالث ألقومِ (أي عثمان) نافجاً حضنيهِ بين نثيلهِ ومُعتلفهِ …”

 

ونستمر في رحاب ألشقشقية حيث يتطرق ألإمام إلى موضوع ألولاية (ألخلافة) وحقهِ بها دون غيرهِ كوارثٍ شرعيٍ لهذه ألمهمةِ بعد ألرسول (ص) وأن لا مجال لمقارنته بأي فردٍ آخر من ألصحابة ثم يظهر إستيائَهُ مما حدث و صبرَه على تجاوز ألمحنةِ:

 

“أما وألله لقد تقمَصَها فلانٌ وإنهُ ليعلمَ أنَ محلي منها محلُ ألقطب منَ ألرحى. … فصبرتُ وفي ألعينِ قذى وفي ألحلقِ شجاً، أرى تراثي نهباً … فصبرتُ على طول ألمدةِ وشدةِ ألمحنةِ … متى إعترضَ ألريبُ في ألأولِ منهم حتى صرتُ أقرنَ إلى هذه ألنظائر لكني أسففتُ إذ أسفوا وطرتُ إذ طاروا …”

 

“… فيا عجباً للدهرِ إذ صِرتُ يُقرنُ بي مَنْ لم يَسْعَ بِقَدَمي، ولم تكنْ لهُ كسابقتي ألتي لا يُدلي أحدٌ بمثلها إلا أنْ يدَعي مُدَعٍ ما لا أعرفهُ ولا أظنُ أللهُ يعرفهُ …”

 

خطابُ ألإمام هذا كان في بداية خلافتهِ أي بعد إنتهاء خلافة ألثلاثة أللذين سبقوه. هذا يعني إن ألغضب وألإمتعاض وألألم ألواضح في هذا ألخطاب قد أستمر لربع قرنٍ من ألزمن وليس مقتصراً على بضعة شهور في بداية حكم أبي بكرٍ، كما يُروى لنا في تراثنا ألإسلامي. بل على ألعكس يتضح إن ألإمام لم يكن يوماً راضياً على حكم أو خلافة من سبقوه ولم يكن يوماً مُبايعاً لأحدٍ منهم بعكس ما تدعيهِ ألمروياتُ. ولكن ومع كلِ ما جرى من إزاحتهِ عن موقعه ألمناط لهُ من قبل ألرسولِ (ص)، إرتئى أن يأخذ موقفاً مسالماً (وليس راضياً) حفاضاً على سلامة ألدين وأرواح ألمسلمين طيلةَ حكم من سبقوهُ من ألخلفاء ألثلاثة.

 

لم يقتصر ألموضوع على تداول ألخلافة فحسب بل يتعدى ذلك لما هو أهم وأكثر حرجاً لقيم ألإسلام ولشؤون ألمسلمين، ويظهر ذلك في تقيم ألإمام ألإنساني وألشرعي لممارسات ألخلفاء ألثلاثة وخصوصاً عثمان بن عفان:

 

“… لَشدَ ما تَشطرَ ضَرْعيها فصَيَرها في حَوزةٍ خشناء يَغْلُظُ كُلامُها ويَخْشُن مَسُها ويَكْثُر ألعِثارُ فيها …”

 

يصف ألإمام، وحسب تفسير ألشيخ محمد عبدو لما ورد أعلاه، تقاسم ألخليفتين ألأول وألثاني للسلطة كتقاسم ألحليب من شطْري او نِصْفي ضرعِ ألحيوان ألحلوب. فبينما أخذ ألأولُ حصتهُ مما أدَرَ به ألنصفُ (ألشطرُ) ألأمامي من هذا ألضرعِ وهبَ ألفرصةَ للثاني ليدرَ حليب ألشطرِ ألخلفي. وبهذه ألحالة باتتْ أمورُ آلمسلمين صعبةً ومضطربة يتخللها ألخشنُ وألعِثارُ، وهذا ألوصفُ من قبل ألإمام لايشابهُ ما يُروى لنا من حُسْنِ أمورِ ألمسلمين أيام ألخلافة ألراشدة.

 

وقد يترحمُ ألمطلعُ على فترةِ حكم ألشيخين عندما يكتشف ما حدثَ بعدها، حيث يصفُ ألإمامُ حُكمَ ألخليفة عثمان ومن لفَ حولهُ منْ أقاربهِ وحاشيتهِ وبألأخص من بني أمية كمنْ لا هَمَ لهم إلا انْ يلتهموا أموالَ ألمسلمين وحقوقهم كإلتهامِ ألإبلُ لنبات ألارض في وقت ألربيع وإلى حد ألتخمةِ، وبدون أي مراعات للشرائع ألإسلامية أو حتى لضوابط انسانية عامة. وهذه بإعتقادي هي ألسابقةُ ألأولى في طبيعة ألفساد ألإداري وألمالي ألتي تطبع عليها وعانا منها ألمسلمون وليومنا هذا:

 

“… إلى أن قامَ ثالثُ ألقومِ (أي عثمان) نافجاً حِضْنَيهِ بين نَثيلهِ ومُعتَلفهِ. وقام معهُ بنو أبيهِ (أي بنو أميةَ) يَخْضِمون مالَ ألله خِضْمةَ ألإبلِ نَبتةَ ألربيعِ إلى أنْ … وَكَبَتْ بهِ بِطْنَتُهُ … ولكنهم حَليتْ ألدنيا في أعُينِهُمْ وراقَهمْ زِبْرِجُها …”

 

ثم وبعد مقتل عثمان، يصفُ ألإمام تهافُتَ ألناسُ عليه من كلِ فجٍ يعطونهُ ألبيعةَ. وهكذا لم يشهد ألتراث ألإسلامي ولايةً او بيعةً أو خلافةً تمت بألشورى ألحقيقيةِ وألبيعةِ ألطوعية من قبل ألمسلمين غير خلافة ألإمام هذهِ:

 

“… فما راعني إلا وألناسُ كعرفِ ألضبُعِ إليَ ينثالون عليَ من كلِ جانب حتى لقد وُطيء ألحسنان. وشُقَ عطفايَ مجتمعين حولي كربيضة ألغنم …”

 

ولن تنتهي هذه ألحالة ألتآمرية في نهاية فترة ألخلفاء ألثلاثة أللذين سبقوه بل ومع شديد ألأسفِ إستمرَ ألتآمرُ وألإجحادُ على ألإمام وبشكل إستفزازيي وغوغائي من قبل ألكثير من ألصحابة ألمقربين. حيث خرج من بيعتهِ وأثناء خلافتهِ ثلاثُ فرقٍ من ألمنشقين (ألناكثون وألمارقون وألقاسطون). وعلى سبيل ألمثال، تَرَأَسَ ألناكثونَ بعضٌ مِن مَن يُسَمونَ بكبار ألصحابةِ وألمبشرين بألجنةِ كطلحة بن عبيد إلله وألزبير بن ألعوام وإحدى أمهات ألمؤمنين عائشة بنت أبي بكرٍ. وقد أضرموا ألعداءَ لهُ بثلاث معارك طاحنةٍ راح ضحييتها عشراتُ ألآلاف من ألمسلمين ألأوائل:

 

“… فلما نهضتُ بألأمرِ نكثتْ طائفةٌ ومرقت أخرى وقسطَ آخرون …”

 

“… فوألله ما زلتُ مدفوعاً عن حقي مستأثراً عليَ منذ قبض أللهُ نبيه (ص) حتى يَؤُمَ ألناسُ هذا”

 

ونتيجة لهذا ألنكوث وألإنشقاق كانت معركة ألجمل ألشهيرة وألتي يقول ألإمام في ألمسببين لها:

 

“… وألله لقد قاتلتهم كافرين ولأقاتلنهم مفتونين. وإني لصاحبهم بألأمس كما أنا صاحبهم أليوم، وألله ما تنقم منا قريش إلا أن آختارنا عليهم فأدخلناهم في حيزنا …”

 

وهذا كلام صادم في صراحته حيث يؤكد ألإمام إن هؤلاء ألناكثون ما هم إلا إمتداد لكافري قريش وأللذين قاتلهم في عهد إلرسول (ص) وكل ما يلقاه هو وأهل بيته منهم من عداء وإجحاف (وألمقصود هنا بقريش هم ألمسلمون ومنهم ألصحابةُ في أيام خلافتهِ وليس ألكافرين في عهد ألرسول (ص))، ما هو إلا ضغينة وحسد نتيجة لإصطفاء آلله سبحانه لبني هاشم وخصوصاً لأهل بيت ألنبي (ص) وتفضيلهِ لهم على باقي قريش. لذلك يقول في كلام آخر:

 

“أللهم أني أستعيدك على قريش فإنهم قد قطعوا رحمي، وأكفؤا إنائي، وأجمعوا على منازعتي حقاً كنتُ أولى به من غيري، (أي ألخلافة) …”

 

من ألأمور ألدقيقة وألحساسة جدآً في كلام ألإمام وكما أسلفت سابقاً هو تقيمهِ للصحابة مقارنةً بنفسه وبأهل بيت ألرسول (ص). قراءةٌ صحيحةٌ لكلامهِ تبين أنَ ألإمامَ لا ينظرُ ألى نفسهِ كأحدِ ألصحابة فحسبْ بل كإمامٍ ووصيٍ معينٍ من قبل ألسماء ومن ألرسول (ص). لذلك فإن ما يعرف عن سيرتهِ منَ ألتقوى وألإيمان وألحب وألزهد فذلكَ وبدون شكٍ ناتجٌ عن ما فيهِ من صفاتٍ ربانيةٍ وألتي تميزُ ألأولياءَ ألصالحين عن غيرهم. ولهذا نراه يقوم بدور ألمصلح ألمعلم وألملهم ألهادي إلى ألإيمان وألتقوى لجميعِ ألمسلمين وبدون إستثناءٍ لكبيرِ عُمْرٍ أو شأنٍ أوجاه أو حتى لأميرٍ أو خليفةٍ. وكما سبق أعلاه في خطبتهِ ألشقشقية، يصف مستنكراً ألخليفةَ عثمان عند توليه ألخلافة بأنهُ كان متكبرآً ومتبختراً كألبعيرِ ألشرِهِ لا همَ له سوى أكلَ مال ألمسلمين بغير حقٍ:

 

“… وقام معهُ بنو أبيهِ يَخْضِمون مالَ ألله خِضْمةَ ألإبلِ نَبتةَ ألربيعِ إلى أنْ … وَكَبَتْ بهِ بِطْنَتُهُ … ولكنهم حَليتْ ألدنيا في أعُينِهُمْ وراقَهمْ زِبْرِجُها …”

 

وفي خطبة له لأهل ألبصرةِ في أعقاب معركة ألجمل، يستصغر فيها موقف أم ألمؤمنين عائشة بنت أبي بكرٍ ألغير مصيب ودورها ألذي لاتحسد عليه في معركة ألجمل:

 

“… وأما فلانَةُ (أي عائشة) فأدركها رأيُ ألنساءِ، وضغنٌ غلا في صدرها كمرجلِ ألقَينِ …”

 

ويُستدلُ من ردهِ على طلحة والزبير عندما عتبا عليهِ من تركهِ لمشورتهما وألإستعانةِ في ألأمور بهما، يُستدلُ إنَ إماماً مثلَهُ لايحتاج مشورةَ أحدٍ في تطبيق حكم ألله بل هو من يرشد ألمسلمين:

 

“… فلم أحتَجْ في ذلكَ إلى رأيكما ولا رأيَ غيرَكما … فلم أحتجْ إليكما فيما فرغَ أللهُ مِنْ قَسْمهِ وأمضى فيهِ حُكمَهُ …”

 

وفي خطابٍ بعثهُ إليهما لعلهم يعودان إلى طاعتهِ بعد أن نكثى بيعتهِ. وهذا ألخطابُ ليس فيهِ تَرَجٍ ولا دعوةٍ ولا حتى نصيحةٍ لصحابةٍ كبار ألشأنِ مثلهم بل هو أمرٌ شديدُ أللهجةِ من إمامٍ يحذِرَهم إنْ لمْ يتوبوا ويكتفوا بقبول ما سيلحقُ بهم من ألعارِ نتيجةً لخروجهم عن طاعتهِ فسوف يصيرُ مصيرُهم إن قاتلوهُ ألعارُ في ألدنيا وألنارُ في ألآخرةِ:

 

“… فأرجعا أيها ألشيخانِ عن رأيكما فإنَ ألآنَ أعظمُ أمرِكُما ألعارُ من قبلِ أن يجتمعَ ألعارُ وألنارُ. وألسلام.”

 

كذلك عندما أرسل ألصحابي أبن عباس لينصح ألزبير فقط وعدم لقاء طلحة عسى أن يعود ألزبير إلى رشدهِ قبل معركة ألجملِ  فيقول واصفاً طلحةَ:

“لا تلقينَ طلحةَ فإنكَ تجدهُ كألثورِ عاقصاً قرْنَهُ (أي متغطرساً) …”

 

ولما بلغهُ عن تقاعصِ ألصحابي أبي موسى ألأشعري، وكان عامله على ألكوفةِ، وتثبيطهُ ألناس عن ألخروج إلى ألإمام لما دعاهم لحرب أصحاب ألجمل، بعثَ لهُ بهذهِ ألرسالةِ وفيها ألكثير من ألإستياء من تصرفهِ ألمشين وتوبيخهِ كتوبيخ ألأبِ لطفلهِ وألقاضي لمذنبٍ. يأمرهُ ألإمامُ بأن يطيع أمرهِ وأن يقوم بواجبهِ ألمناط بهِ، فإن لم يفعل فألأحرى بهِ أن يتنحى وبدون أسفٍ عليهِ وإن ألإمامَ قادرٌ على ألنصر بدون أي دورٍ منه ولا ذكرٍ لهُ في هذه ألمهمة ألجهادية:

 

“… فإن حققتَ فأنفذْ، وإن تَفَشَلْتَ فأبعدْ. … فأعقلْ عقلَكَ … فإن كرَهتَ فتَنَحَ إلى غيرِ رَحْبٍ ولا في نجاةٍ، فبألحَرِيِ لَتُكْفيَنَ وأنتَ نائمٌ حتى لا يقالُ أينَ فلانٌ …”

 

وفي قولٍ آخر لإبن عباس (وهو ما يُدعى في تراثنا “حَبْرَ ألأمة” كأهم مفسرٍ للقرآن ألكريم وراوٍ للسنةِ ألنبويةِ) عندما أشار على ألإمامِ تجنُبَ ألصراعَ مع كبار ألصحابة ألمنشقين عنهُ بل ألأفضل مساومتهم وإغرائهم عن طريق منحهم ولايةَ بعضِ ألأمصارِ. فلم يوافقَ ذلكَ ألإقتراح ألمشين رأيَ ألإمام فردَ عليهِ ردَ ألواعض ألواجب طاعته:

“لا أفْسِدُ ديني بدُنيا غيري”

 

“لكَ أن تُشيرَ عليَ وأرى، فإن عصيتُكَ فأطعني”

 

ومن ألأمور ألصاعقة في تقيم ألإمام لبعض ألصحابة ألمقربين في وقتهِ هو ما أفصحَ عنهُ من إنحراف بعضهم عن ألدين وألإيمان وليس بمجرد أختلاف رأيٍ سياسي فيمن يتولى ألخلافة. قال ألإمام للصحابي ألجليل أبي ذرٍ عندما نفاهُ ألخليفة عثمان إلى صحراء ألربثة، يؤكد فيها إن عثمان وحاشيته فضلوا ألدنيا على ألدين بقرارهم ألسيء هذا:

 

“… إن ألقومَ (أي عثمان وحاشيتهُ) خافوكَ على دنياهُم وخِفْتَهمْ على دينِكَ … فما أحْوَجهمْ إلى ما منعتَهُمْ وما أغناكَ عَما منعوكَ. وَستعلمُ مَن ألرابحُ غداً، … فلو قبلتَ دنياهُم لأحبوكَ …”

 

وقال للمسلمين، وهم أجلهم صحابةٌ في وقت ولايتهِ، قولاً فيهِ ألكثير من خيبة ألأمل فيهم:

 

“لم تكن بيعتكم إيايَ فلتةً، وليس أمري وأمركم واحداً. أني أريدكم للهِ وأنتم تريدونني لأنفسكمْ …”

 

ومن عجائب كلامهِ مستنكراً تصرفات ألكثير من ألصحابة، مؤكداً بذلكَ سوءَ ما عملوا وأنحرافهم عن سلوك ألإسلام وخُلُقِ ألإيمان في قِيَمِ ألسماء كحديثهِ لعثمان بن عفان عندما ثار ألمسلمون على خلافتهِ وطلبوا من ألإمام أن يُكَلمَ عثمان ويقنعه في ألتنحي عن ألخلافة أو تلبية طلبات ألمسلمين. ألقراءة ألسليمة لمثلِ هذا ألحوار يوضح مكانة ألإمام ألسامية عند جميع ألمسلمين حتى وإن كانوا خلفاءٌ:

 

“… وما أبنُ أبي قحافةَ ولا أبن ألخطابِ أولى بعمل ألحقٍ منكَ … فأعلم إن أفضل عباد ألله إمام عادلٌ … وإن شرً ألناس عند ألله إمام جائرٌ … وإني أنشدك ألله أن لا تكون إمام هذه ألأمة ألمقتول (وكان هذا فعلاً !) فلا تكونَنَ لمروان سيٍقةً يسوقكَ حيثُ شاء بعد جلال ألسنٍ وتقضي ألعمرِ. …”

 

يلاحظ هنا صيغة ألخطاب ألفريدة في هذا ألنص وألموجهِ إلى خليفة ألمسلمين. وفي هذا ألصدد ومما تجدر ألإشارة إليهِ لم أجد في هذا ألكتاب نصاً واحداً يدعو بهِ ألإمامُ أحداً “بأمير ألمؤمنين” أو “خليفة ألمسلمين” بل نراهُ يدعو هنا أبي بكر بإبن أبي قحافة. أيجرأ أحدُ ألصحابة أن يوجه مثل هذا ألخطاب ألناصح وألمحذر وألموبخ لخليفةِ ألمسلمين غيرُ أن يكون مثل هذا ألإمام ؟ ولهُ كلامٌ آخر يستهجنُ فيهِ تصرفَ من نكث بيعته وشقً عصا ألمسلمين وأهانَ حُرمةَ ألرسول (ص) وعلى رأسهم طلحة وألزبير وعائشة:

“… فخرجوا يَجرون حُرْمةَ رسول ألله (ص) كما تُجَرُ ألأمَةُ عند شِرائها، متوجهين بها إلى ألبصرةِ، فحَبِسا نساءَهُما في بيوتِهما، وأبرزا حَبيسَ رسول ألله (ص) لهما ولغيرِهُما في جيشٍ ما منهمْ رجلٌ إلا وقد أعطاني ألطاعةَ وسمحَ ليَ بألبيعةِ طائعاً غيرَ مُكرَهٍ …”

 

وفي موضوعٍ آخر ذو صلةٍ، كثُرَ ألجدلُ في موضوع مظلومية ألزهراء (ع) بنت ألرسول (ص) وفي صحَةِ موتها وهي غاضبةً على أبي بكر وعمر، وذلكَ نتيجةَ إجحافِهمْ لها وأغتصاب حقها. يعتبر هذا ألموضوع حرجاً وحساساً جداً لعلاقته بحديث صحيح يؤكد إن ألله تعالى يغضبُ لغضبِ فاطمة ويرضى لرضاها. أي إن أللهَ يغضبُ على مَن غضبتْ عليه فاطمةٌ وألمعنين بألغضبِ هنا وبإجماع ألتراث ألإسلامي حسب ما أظن، هما ألخليفتين ألأول وألثاني، كما سيبين بعد قليل ! يقول ألإمامُ عند دفنهِ زوجتهُ فاطمة (ع) وهو موجهاً كلامَهُ إلى ألرسول (ص):

 

“… أما حزني فسرْمَدْ، وأما ليلي فمُسَهدْ إلى أن يختارَ أللهُ لي داركَ ألتي أنتَ بها مقيم. وَسَتُنْبِئُكَ إبنَتُكَ بتضافُرِ أمَتِكَ على هَضْمِها فأحْفِها ألسؤالَ وأستخبِرْها ألحالَ. …”

 

يؤكدُ ألإمام على إشتراك أبو بكر وعمر بألإثم في غضبها ألمؤلم حتى وافاها ألموتُ. وفي هذا ألصدد يؤكد ألإمام صحة إدعاء ألزهراء بحقها في “فدك” وإغتصابه منها من قبل إبي بكر، حيث يقول في رسالة له لأحد ولاته:

“… بلى كانت في أيدينا فدكٌ من كلِ ما أظلتهُ ألسماءُ، فشَحتْ عليها نفوسُ قومٍ وسخَتْ عنها نفوسُ آخرين ونعمَ ألحكمُ ألله. …”

 

وألمقصود هنا بألقوم أللذين شحت عليها أنفسهم هم أبي بكر وعمر وهنا يُوكِلُ ألإمامُ ألأمرَ لحكم ألله فيه. وللإمام قولٌ عجيب آخر يوصفُ فيه تكالبَ ألصحابة عليهِ وكما يصفهُ هو بألإثمِ وألعدوان. ثم يصفُ عدائهم إليه كعداءِ قريش ألجاهليةِ للرسول (ص)، وهذه مقارنة فريدة جداً في ألتراث ألإسلامي. ثم يعقبُ بأعجب مما سبق أعلاه معتبراً إغتصابهم للخلافة منهُ كسلبهمْ لإرثٍ شرعي لهُ من “أخيه” رسول ألله (ص) وحسب تعبيرهِ (إبن أمي):

 

“… فإنهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول ألله (ص) قبلي، فجزَتْ قريشاً عني ألجوازي، فقد قطعوا رحمي، وسَلَبوا سُلطانَ إبنِ أمي. …”

 

وهذا برأي تعبيرٌ عجيب ونادر، لا يتجرأ أي صحابي آخر أن يدعي مثلَ هذا ولا يمكنُ أن يُقْبلَ إدعاءٌ كهذا من أي مسلمٍ غير هذا ألإمام. لا أجدُ تفسيرا لذلك إلا وإن هذا ألإمام واثق بصدق ما يقول وإن ألصحابةَ مقرون بجدارته بهذا ألمقام ألمميز. ان ما يستنبطهُ القارىءُ من اقوال الامام وخطبهِ في هذا ألصدد ليس بمجرد دعوةً لطاعته كأيِ ملكٍ او امير ما لتسهيل امارة ألمؤمنين ألدنيوية فحسب بل هي موعظةٌ منهُ للتمسك بهِ كعروةٍ وثقى والولاية التامة لهُ كفرضٍ سماوي أوصى به الرسول (ص) لهُ، وكما جاء على سبيل ألمثال في “حديث ألغدير” ألشهير ولست هنا في صدد تناول مثل هذه ألأحاديث ألنبوية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *