المؤلف عبد الله جاسم الجنابي وقد استهل الكتاب بمقدمة عن آية نشوز المرأة تحدث فيه عن أن الشقاق سببه قد يكون المرأة أو الرجل فقال:
“…فنجد الشقاق يقع أحيانا من الزوجة كما بينه الله أحسن بيان في كتابه الكريم بقوله واللائي تخافون نشوزهن , فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا ” قال ابن عباس ” تلك المرأة تنشز وتستخف بحق زوجها ولا تطيع أمره فأمره الله أن يعظها ويذكرها بالله ويعظم حقه عليها فان قبلت والا هجرها في المضجع ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها وذلك عليها تشديد فان رجعت والا ضربها ضربا غير مبرح ولا يكسر لها عظما والا يجرح بها جرحا فإذا أطاعتك فلا تجني عليها ” ويقع الشقاق أحيانا من الزوج كما قال تعالى ( وان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير) ” قال بعض أهل التفسير “النشوز التباعد والإعراض أن لا يكلمها ولا يأنس بها وظاهر الآية أنها تجوز المصالحة عند أي نشوز أو أي إعراض والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وظاهرها انه يجوز التصالح بأي نوع من أنواعه إما بإسقاط النوبة او بعضها أو بعض النفقة أو بعض المهر ” وحينا تقع المشاقة والخصومة والاعراض من الطرفين جميعا وهو الذي ذكره جل وعلا بقوله ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهلها وحكما من أهله إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا ) ”
واستهل الكتاب بتعريف الشقاق لغة وشرعا فقال :
“1 الشقاق تعريفه لغة وشرعا
أ لغة
قال محمد عبد الرءوف المناوي”الشقاق بالكسر الخلاف ..”
وقال ابن فارس ” الشين والقاف اصل واحد صحيح يدل على انصداع في الشيء ..ومن الباب الشقاق وهو الخلاف ..”
المراد منه
ب – شرعا
لا يخرج معنى الشقاق الشرعي عن معناه اللغوي قال محمد بن جرير الطبري في قول الله تعالى ” وان خفتم شقاق بينهما” “وان علمتم أيها الناس شقاق بينهما وذلك مشاقة كل واحد منهما صاحبه وهو اتيانه ما يشق عليه من الأمر فإما من المرأة فالنشوز تركها أداء حق الله عليها الذي ألزمها الله لزوجها وأما من الزوج فتركه إمساكها بمعروف أو تسريحها بإحسان” وقال أبو السعود العمادي ” والشقاق المخالفة إما لان كلا منهما يريد ما يشق على الآخر وأما لأن كلا منهما في شق أي جانب غير شق الآخر ”
وقال أبو جعفر الطوسي – من علماء الامامية المتوفي سنة 46ه- ” والشقاق الخلف والعداوة ..”
فخلاصة ما تقدم يكون الشقاق هو شدة المنازعة والخصومة بين الزوجين بحيث لا يستقيم لهما حال من غير أن يتبين المقصر منهما ”
الشقاق لا يراد منه فى الآية الخلاف وإنما المراد به إرادة الانفصال وهو الطلاق نتيجة المشاكل المختلفة لأن الخلاف بين الزوجين موجود حتى مع وجود الحياة الزوجية مستقرة فقد يختلفان فيما يأملان وفيما يحبان من الوان الملابس وما يريدان من تسمية الأولاد وما شابه
إذا المراد بالشقاق الرغبة فى الطلاق من الطرفين وبعد هذا تعرض لمعنى الخوف فقال :
“فإذا علمنا الشقاق ما هو يحتاج أن نعلم ما هو الخوف الوارد في قوله تعالى “وان خفتم ” وهو المسألة الآتية
2 – ذكر أهل التفسير في الخوف قولين
احدهما العلم وهو قول ابن عباس واختاره أبو سليمان الدمشقي ويرد عليه
إننا لو علمنا الشقاق لم يحتج إلى الحكمين قال أبو السعود العمادي ” والجزم بوجود الشقاق لا ينافي بعث الحكمين لأنه لرجاء إزالته لا لتعرف وجوده بالفعل ”
والثاني الظن أو الحذر من وجود ما لا يتقين وجوده
قال الطوسي “إن خفتم ” الخوف الذي هو خلاف الأمن وهو الأصح فان أريد به الظن كان قريبا مما قلناه ” ”
فالخوف كما سيقول هو العلم بالرغبة فى الطلاق فى الفقرة التالية:
“وبناء على القولين يكون الخوف هو العلم أو الظن فمن هو المخاطب بالآية ؟
3 – ذهب جمهور العلماء إلى أن المخاطب بالآية هم الحكام والأمراء قال العلامة الفقيه أبو محمد بن حزم ” وإذا شجر بين الرجل وامرأته بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها ..وعليه أكثر المفسرين
قال الإمام البيضاوي “فابعثوا حكما ” فابعثوا أيها الحكام متى اشتبه عليكم حالهما لتبين الأمر ”
ويرى بعض أهل التفسير أن المأمور بذلك الرجل والمرأة وبه قال السدي
وقيل أيهما كان ناب عن الآخر وهو اختيار شيخ المفسرين الإمام أبي جعفر الطبري فانه قال ” وأولى الأقوال بالصواب في قوله ” فابعثوا حكما ” أن الله خاطب المسلمين بذلك وأمرهم ببعثة الحكمين عند خوف الشقاق بين الزوجين للنظر في أمرهما ولم يخصص بالأمر بذلك بعضهم دون بعض وقد اجمع الجميع على أن بعثة الحكمين في ذلك ليست لغير الزوجين وغير السلطان الذي هو سائس أمر المسلمين أو من أقامه مقام نفسه ولا دلالة في الآية تدل على أن الأمر بذلك مخصوص به أحد الزوجين ولا أثر به عن رسول الله (ص) والأمة فيه مختلفة وإذا كان الأمر على ما وصفنا فأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون مخصوصا من الآية من أجمع الجميع على أنه مخصوص منهما وإذا كان الأمر كذلك فالواجب أن يكون الزوجان والسلطان ممن قد شمله حكم الآية”
والحق هو أن قاضى البلدة الخاص بالزواج والطلاق هو المختص بذلك فهما أو أحدهما يذهبان إليه ويعلنان الرغبة فى الطلاق ومن ثم يكون واجبه هو إرسال حكم من أهله وحكم من أهلها للتوفيق بينهما ثم قال :
4 – الحكم التكليفي لبعث الحكمين
أتفق العلماء على جواز بعث الحكمين إذا وقع التشاجر بين الزوجين وجهلت أحوالهما فلم يعلم المحق من المبطل وبعد الاتفاق على مشروعية ذلك اختلفوا في حكم البعث على قولين قال الإمام النووي في روضة الطالبين ” وعليه- أي الحاكم – بعثهما وظاهره الوجوب وحجته الآية “فابعثوا ” وقال الروياني يستحب قلت – القائل هو الإمام النووي – الأصح أو الصحيح الوجوب ”
وقال الخطيب الشربيني “وبعث الحكمين واجب …”
قال شيخ الإسلام ابن تيمية “ثم انه إذا وقع الشقاق بين الزوجين فقد أمر الله ببعث حكما من أهله وحكما من أهلها “ولفظ أمر من الصيغ الصريحة الدالة على الوجوب كما هو مقرر معلوم في كتب أصول الفقه
قلت والقول بالوجوب يؤيده ظاهر الآية والأصل في الأمر الوجوب إلا لقرينة صارفة ولا قرينة ..”
والأمر بإرسال الحكمين لا شك فى وجوبه على قاضى البلدة حيث يطلب من أقارب الزوج وأقارب الزوجة الحضور عنده ويطلب منهم أن يختار كل أهل حكم منهم كى يصلحا بين الزوجين حيث يجلسان معا مع الزوج لمعرفة سبب الرغبة فى الطلاق ويجلسان مع الزوجة ويحاولا أن يوفقا بينهما
وتحدث الجنابى عن الحكين فقال :
“5 – الحكمان من الأهل :
وهذان الحكمان المبعوثان يكونان من أهل الرجل وأهل المرأة لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال فيطلعان على ما لا يطلع عليه غيرهم وهما أطلب للصلاح ونفوس الزوجين أسكن إليهم فيبرزان ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة ولأجل هذه المعاني المختصة بالأهل دون غيرهم ذهب بعض أهل العلم بأن الحكمين لا يكونان إلا من أهل الرجل والمرأة بل نقل العلامة الفقيه ابن رشد الإجماع على ذلك فقال ” وأجمعوا على أن الحكمين لا يكونان إلا من أهل الزوجين أحدهما من قبل الزوج والآخر من قبل المرأة إلا أن لا يوجد في أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما
..وظاهر النص القرآني يؤيد وجوب أن يكون الحكمان من أهل الزوج وأهل الزوجة …”
مما سبق يتبين وجوب كون الحكمين من الأهل وهم الأقارب وأما فى حالة الشذوذ وهو موت كل ألأقارب أو انعدامهم فالزوج يختار من يريد من الأصحاب أو الجيران والزوجة تختار من تريد من أزواج صاحباتها أو جيرانها وهى حالة نادرة
وتحدث عن حالة وجود حكم واحد فقال :
“6 – تحكيم واحد
وهل يصح في مثل هذا الأمر حكم واحد أم لابد من الحكمين معا ؟
ذهب المالكية إلى جواز ذلك فقد جاء في المدونة ” فان اجتمعا على رجل واحد هل يكون بمنزلة الحكمين لهما جميعا ؟ قال مالك نعم .. ”
وقال القرطبي ” ويجزىء إرسال حكم واحد لان الله حكم في الزنى بأربعة شهود ثم قد أرسل (ص)إلى المرأة الزانية أنيسا وقال له إن اعترفت فارجمها والحديث وان كان صحيحا فان الاستدلال به غير مستقيم فان رسول الله (ص)لم يرسل أنيسا حكما وإنما أرسله منفذا لأمر رسول الله (ص)باستفهام المرأة وتقريرها هل زنت أم لا ؟ فلما أقرت بالفاحشة رجمها لا لأنه حاكم بل لأنه أمر بالرجم كما في قوله ” فان اعترفت فارجمها ” فغاية ما هنا أنه وكيل بتنفيذ الحد
…وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يكتفى بحكم واحد بين الزوجين
واستدلوا بظاهر الآية ” فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ” ولأن كلا من الزوجين يتهمه ولا يفشي إليه سره
قال ابن تيمية مستدلا لهذا المذهب ” والله سبحانه لم يرض بحكم واحد بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما فانه لا يعلم ايهما الظالم وليس بينهما بينة بل أمر بحكمين وألا يكونا متهمين بل حكما من أهل الرجل وحكما من أهل المرأة ”
وفي جعل الحكمين اثنين تنبيه لطيف إلى مسألة الشورى التي قررها الإسلام من غير استبداد أحد برأيه فان الحكم الواحد قد يخطىء في اجتهاده أو لم يستوف القضية بحثا ودراسة وتفتيشا وتمحيصا فوجود حكم آخر معه يؤيده ويقويه برأيه ونظره ليجتمعا سوية على حكم واحد وقد سأل موسى (ص) ربه عز وجل أن يعينه بأخيه هارون فقال ” واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري ” ” وموسى (ص)مسدد ومؤيد بالوحي فغيره أحوج إلى الرأي والمناصحة والمشاورة وتقليب الأمور للوصول إلى الصواب في إزالة الشقاق أو الحكم بالصلح على شيء أو المخالعة أو التفريق على ما يريانه سدادا ”
ووجود حكم واحد هو مخالفة وعصيان لأمر الله فى الآية وأفلح الجنابى بالرد على حديث أنيس أنه ليس فى الإصلاح بين الزوجين ثم تحدث عن الشروط الواجب توافرها فى الحكمين فقال :
“7 – ما يشترط في الحكمين كي يحقق التحكيم الغرض المرجو منه لا بد أن تتوفر في الحكمين جملة من الشروط منها
أ – كمال الأهلية وذلك بأن يكونا بالغين عاقلين فلا يصح تحكيم صبي ولا سفيه ومن لا يصلح للنظر في شأن نفسه فهو لا يصلح للنظر في شأن غيره من باب أولى وهذا بين ظاهر
ب – الذكورة وفيها قولان للفقهاء
القول الأول ذهب المالكية والحنابلة في الأصح والشافعية في قول إلى اشتراط الذكورة في الحكمين لأن هذا الأمر مفتقر إلى الرأي والنظر
القول الثاني ذهب الشافعية في القول الآخر والحنابلة في الرواية الأخرى إلى جواز كون الحكمين من الإناث …تنبيه قال ابن جزي الغراطي المالكي في قوانينه الفقهية ” عادة القضاة أن يبعثوا امرأة مسنة عوض الحكمين قال بعض العلماء وذلك لا يجوز لأنه مخالف للقرآن ”
وهذا الكلام عن تحكيم الإناث لا محل له فالآية تتحدث عن حكم وحكم وليس عن حكمة وحكمة أو حكم وحكمة كما أن المسنة هى شيخة والشيخوخة فى الذكر والأنثى تجعل العقل يتراجع ومن ثم يجب أن يكونا ممن فى سن الأربعين وما يقاربها فهى سن كمال الرشد كما قال تعالى :
” حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعنى أن اشكر نعمتك التى أنعمت على وعلى والدى وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لى فى ذريتى إنى تبت إليك وإنى من المسلمين”
ثم قال:
ج – العدالة
والمقصود منها الاعتدال في دينه وذلك بأن يكون مجتنبا للكبائر وعلى ترك الصغائر محافظا على مروءته ظاهر الأمانة غير مغفل وقيل صفاء السريرة واستقامة السيرة والمعنى متقارب
وممن نص على اشتراط العدالة الإمام أبو حامد الغزالي في الوسيط فقال ” ثم لابد على هذا القول في الحكمين من العدالة والهداية إلى المصالح ” وقال أبو إسحاق بن مفلح ” فان خرجا إلى الشقاق والعداوة بعث الحاكم حكمين حرين مسلمين عدلين مكلفين لأن هذه شروط العدالة ”
القوم يفهمون العدالة هنا خطأ فالعدالة تعنى الإسلام وليس غيره فلا يجوز تحكيم الكفار فى مشاكل المسلمين ثم قال :
د – الحرية
فلا يصح أن يكون الحكم عبدا لأن العبد لا تقبل شهادته فتكون الحرية من شروط العدالة وبه قال الإمام مالك والحنابلة في الأصح من المذهب وهو اختيار القاضي أبي يعلى الفراء الحنبلي وهو المذهب عند الشافعية
وعلى الرواية الأخرى عن الإمام أحمد والقول المرجوح عند الشافعية أنه يجوز أن يكون الحكمان عبدين لا باعتبارهما حكمين يقضيان بينهما وإنما باعتبارهما وكيلين لأن توكيل العبد جائز ولا تشترط له الحرية بينما لا يجوز أن يكون الحاكم عبدا ”
وهذا الكلام خطأ فاحش فكل مسلم تقبل شهادته فى نفسه وفى غيره كما قال تعالى :
“يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين وإن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ”
ثم قال :
ه– الإسلام
فلا يصح تولية كافر التحكيم بين المسلمين لقوله تعالى ” ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ” بل قال تعالى ” ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يتحاكمون إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ” ” وعلى هذا الأساس فلا يجوز أن يكون الحاكم كافرا وكذلك لا يجوز أن يتحاكم إليه
قال الإمام المحقق الشوكاني مفسرا الآية ” فيه تعجيب لرسول الله (ص)من حال هؤلاء الذين ادعوا لأنفسهم أنهم جمعوا بين الإيمان بما أنزل على رسول الله وهو القران وما أنزل على قبله من الأنبياء فجاءوا بما ينقض عليهم هذه الدعوى ويبطلها من أصلها ويوضح أنهم ليسوا على شيء من ذلك أصلا وهو إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت وقد أمروا فيما أنزل على رسول الله وعلى من قبله أن يكون يكفروا به وسيأتي بيان سبب نزول الآية وبه يتضح معناه ”
والعدالة كما سبق القول هى الإسلام ومن ثم فهذا تكرار ثم قال :
ه – العلم والفقه
ونعني بذلك أن يكونا عالمين بالجمع والتفريق لهما خبرة ودراية في شؤون الأزواج وهذا ما سيأتي له مزيد تفصيلا قريبا والذي نريد بحثه هو هل يشترط في الحكمين الفقه؟
في المسألة قولان قال شمس الدين بن مفلح “إن كانا حكمين يشترط الفقه وان كانا وكيلين جاز أن يكونا عاميين قال وهذا الثاني ضعيف ” ومع القول باشتراط الفقه فانه لا يشترط فيهما الاجتهاد وقال أبو حامد الغزالي ” وكذلك كل أمر معين جرى يفوضه القضاة إلى الآحاد”أي لا يشترط فيه الاجتهاد ”
والعلم والفقه لا يشترطان فى الحكمين بمعنى أن يكون علماء فقهاء وإنما علماء علم العامة فإن وجد منهما علماء حقا كانوا هم ألأولى بكونهم الحكام
وتحدث عما يصنعه الحكمان مع الزوجين فقال :
8 – ما يفعله الحكمان مع الزوجين
إن المهمة التي يقوم بها الحكمان خطيرة فعلى أساسها تتم استدامة الحياة الزوجية أو رفعها لذلك عليهما أن يبذلا جهدا عظيما للوصول إلى معرفة أسباب الشقاق ولا توجد هناك طريقة معينة يلزم الأخذ بها دون غيرها بل هذا متروك تقديره لفطانة الحكمين وذكائهما ومن تلك الطرق ما ذكره الإمام القرطبي في بيان كيفية عمل الحكمين بقوله ” ويخلو الحكم من أهل الزوج به ويقول له اخبرني بما في نفسك أتهواها أم لا ؟ حتى أعلم مرادك فان قال لا حاجة لي فيها خذ لي منها ما استطعت وفرق بيني وبينها فيعرف أن من قبله النشوز وان قال إني أهواها فأرضها من مالي بما شئت ولا تفرق بيني وبينها فيعلم أنه ليس بناشز وكذلك يفعل الحكم من أهل الزوجة معها فيخلو بها ليتبين له حقيقة ما في نفسها ملاحظين أن الحكم إن كان من محارمها فلا حرج في خلوتها به وان كان من غيرهم يتعين حضور امرأة من محارمه معه دفعا لشبهة الخلوة المحرمة
ومن الأساليب التي يحتاجها الحكمان التلطف بالقول لعل الله تعالى بحسن قولهما يوفق الزوجين لإصلاح ذات البين ورفع الشقاق ومن القول اللطيف الذي يترك أثرا حسنا في سامعه هو الترغيب والترهيب فيرغبان أحدهما في الآخر وفي حسن الخلق والصبر والعفو وانه لا يبغض مؤمن مؤمنة – أي لا يكره زوج زوجته – إن كره منها خلقا رضي منها خلقا غيره
ويذكرا الزوجة بعظم حق الزوج وفضل طاعته في غير معصية الله وان في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا وكل ذلك مؤيد بنصوص الوحي من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ليخاطبا بها روح الإيمان في نفوس الزوجين ليكون أوقع في نفسيهما
وعلى الحكمين أن يتحريا العدل والإنصاف ما استطاعا إلى ذلك سبيلا ولا يخصا بذلك أحدهما دون الآخر ولا يميلا إلى أحدهما دون الآخر ليكون أقرب للتوفيق بينهما ”
وما يعمله الحكمان أولا الاستماع معا لكل واحد من الزوجين وثانيا جلوس الحكمين معا لبحث أوجه الخلاف وتحديدها ثم تقرير كيفية الإصلاح فقد تكون الكذب على الطرفين بنقل كلام طيب فى حق كل طرف من الطرف الأخر وقد يكون إصدار حكم فى مسائل الخلاف حسب أحكام الله فيطلب من الطرف المخطىء التوبة لله والاعتذار وقد يكون طلب فعل أمور معينة من كل طرف وقد يكون جمع مال من الأهلين لسد حاجة معينة عند طرف …
وبين الجنابي ضرورة وجود إرادة عند الزوجين للإصلاح وهو عودة المياه لمجاريها كما يقال فقال :
“ومما يحتاجه الحكمان والزوجان معا حسن النية وصلاحها لقوله تعالى “إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ”
ولأهل التفسير في الآية ثلاثة أقوال في المقصود منها
القول الأول ان الضمير يعود للحكمين ..القول الثاني المراد الزوجان أي يرد الزوجان إصلاحا وصدقا فيما أخبر به الحكمين يوفق الله بينهما فيزول الشقاق وتقع الألفة والوفاق
القول الثالث إن الضميرين كلاهما يعودان للحكمين أي إن قصدا الإصلاح يوفق الله بينهما لتتفق كلمتهما ويحصل مقصودهما وأنت تلاحظ أن هناك رابطا مشتركا ينتظم هذه الأقوال جميعا ألا وهو حسن النية وصلاحها ”
والحكمان يريدان التوفيق فى كل الأحوال وأما الزوجين فهما من يريدان التصالح أو الانفصال
وتحدث عن سلطة الحكمين فقال :
9 – التكييف الفقهي للتحكيم
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الحكمين لهما سلطة الجمع والتفريق دون الرجوع إلى إذن الحاكم ..
وذهب جماعة من الفقهاء إلى أن الحكمين وكيلان ليس لهما الفرقة إلا بتوكيل الزوجين …
قال ابن حزم مستدلا لهذا المذهب الأخير ” ليس في الآية ولا في شيء من السنن أن للحكمين أن يفرقا ولا أن ذلك للحاكم وقال عز وجل ” ولا تكسب نفس إلا عليها ” “وصح أنه لا يجوز أن يطلق أحد على أحد ولا أن يفرق بين رجل وامرأته إلا حيث جاء النص بوجوب فسح النكاح فقط ولا حجة في قول أحد دون رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
قال الحافظ المفسر ابن كثير ” ومأخذهم قوله تعالى ” إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ” ولم يذكر التفريق
وقال الخطيب الشربيني الشافعي ” وهما وكيلان لا حاكمان من جهة الحاكم …”
وقال الإمام أبو بكر الجصاص ويدل قوله تعالى “فابعثوا حكما من أهله “على أن الذي من أهله وكيل له والذي من أهلها وكيل لها كأنه قال فابعثوا رجلا من قبله ورجلا من قبلها فهذا يدل على بطلان قول من يقول إن للحكمين أن يجمعا إن شاءا وان شاءا فرقا بغير أمرهما ثم قال “وفي فحوى الآية ما يدل على انه ليس للحكمين أن يفرقا وهو قوله تعالى ” إن يريدا إصلاحا ولم يقل إن يريدا فرقة …واستدل للمذهب الأول
بقوله تعالى”فابعثوا حكما من أهله ” فسماهما حكمين والحكم لا يحتاج فيما يوقعه من الطلاق إلى إذن الزوج كالوالي قال القرطبي “والصحيح الأول لقوله تعالى ” فابعثوا حكما ” وهذا نص من الله تعالى على أنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى وللحكام اسم في الشريعة ومعنى فإذا بين الله كل واحد منهما فلا ينبغي أن يركب معنى أحدهما على الآخر ” ونحوه قول الحافظ ابن كثير ” وقد سماهما الله حكمين ومن شأن الحكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه وهذا ظاهر الآية ”
.وأجاب الإمام القرطبي عن أدلة الحنفية ومن وافقهم فقال “إن الحكمين لا يطلقان إلا برضا الزوجين وتوكيلهما فخطا صراح فان الله خاطب غير الزوجين إذا خاف الشقاق بين الزوجين بإرسال الحكمين وإذا كان المخاطب غيرهما فكيف يكون ذلك بتوكيلهما ولا يصح لهما حكم إلا بما اجتمعا عليه هذا وجه الأنصاف والتحقيق في الرد عليه ”
ومما يرد على استدلال الإمام الجصاص أن الفرقة قد تكون هي السبيل الوحيد الذي لا يتعين غيره للإصلاح ولرفع المضارة عن الزوجين
…”
والحكمان ليسوا قضاة إلا فى مسائل الخلاف الزوجى بمعنى أن يقررا من المخطىء فى مسألة كذا ومن المخطىء فى مسألة كذا وأما غير هذا وهو الطلاق فهو حق الرجل وحده كما قال تعالى:
” فإن طلقها”
واستثنى الله من ذلك حالة الافتداء التى يسمونها الخلع ففى تلك الحالة يكون الطلاق وجوبيا من الزوج إذا أعادت الزوجة المهر له
ومن ثم لا يمكن أن يطلق الحكمان
وتحدث عن رضا الزوجين بالحكمين فقال:
1- هل يشترط رضا الزوجين لبعث الحكمين ؟
اختلف العلماء في هذا على قولين
القول الأول لا يجوز بعث الحكمين إلا برضا الزوجين …”
القول الثاني يجوز بعث الحكمين دون رضاهما …”
رضا الزوجين عن الحكمين واجب فالأزواج أعلم بمن يريد مصلحتهما من الأهل كما قال تعالى :
“ممن ترضون من الشهداء”
وتحدث عن تطليق الحكمين فقال :
11- تطليق الحكمين
قال المالكية ومن وافقهم من الفقهاء ” وتفريقهما- أي الحكمين – جائز على الزوجين سواء وافق حكم قاضي البلد أو خالفه وكلهما الزوجان بذلك أو لم يوكلاهما والفراق في ذلك طلاق بائن وقال غيرهم ليس للحكمين الطلاق ما لم يوكلهما الزوج في ذلك وليعرفا الإمام وهذا بناء على أنهما رسولان شاهدان ثم الإمام فرق إن أراد ويأمر الحكم بالتفريق
12- إذا طلق الحكمان ثلاثا
قال المالكية ولو اتفقا على الثلاثة لم يلزم إلا واحدة وليس لهما الفراق بأكثر من واحدة بائنة وهو قول ابن القاسم وقال المغيرة وأشهب وابن الماجشون وأصبغ تلزمه الثلاثة إن اجتمعا عليها
قلت ولم أر لغير المالكية في هذا قولا لأن الراجح عندهم أن الحكمين وكيلان ليس لهما التفريق وفي المدونة قال مالك ” لا يكون لهما أن يخرجاها من يديه بغير طلاق السنة وهي واحدة لا رجعة فيها حكما عليه فيه بمال أو لم يحكما به لأن ما فوق ذلك خطأ وليس بصواب وليس بمصلح لهما أمرا والحكمان إنما يدخلان من أمر الزوج وزوجته فيما يصلح لهما ”
والذي يظهر لي – – أن الحكمين إذا اتفقا على الثلاث ردت إلى الواحدة لأن الأصل في حكم الحكمين هو رفع الضرر عن الزوجين معا ورفع الضرر يقع بواحدة لا سيما إن قلنا إنها طلقة بائنة ”
كما سبق القول تطليق الحكمين مخالف لقوله تعالى :
” فإن طلقها”
فالطلاق حق الزوج وحده
وتحدث الجنابى عن اختلاف الحكمين فقال:
13- اختلاف الحكمين
إذا اختلف الحكمان فقضى أحدهما بالفرقة والآخر باستدامة العشرة أو قضى أحدهما بالفرقة على مال وقضى الآخر بالفرقة من غير مال أو نحو ذلك من وجوه الخلاف بين الحكمين فقال ابن عبد البر ” أجمع العلماء على أن الحكمين إذا اختلف قولهما فلا عبرة بقول الآخر وأجمعوا على أن قولهما نافذ في الجمع وان لم يوكلهما الزوجان ”
قلت ولا يعكر على هذا الإجماع ما نقله الإمام النووي عن الحناطي – من علماء الشافعية – فقال وذكر الحناطي أنه لو رأى أحد الحكمين الإصلاح والآخر التفريق ففرق نفذ التفريق “فان هذا الخلاف وقع بعد إجماع المتقدمين بل قال الإمام النووي ” ولو اختلف رأي الحكمين بعث آخرين حتى يجتمعا على شيء ”
14- حكم أحد الحكمين دون الآخر
وإذا حكم احد الحكمين وسكت الآخر فليس حكمه بشيء حتى يحصل منهما الاتفاق على قول واحد وقد أخرج الإمام البيهقي عن علي قال ” إذا حكم أحد الحكمين ولم يحكم الآخر فليس حكمه بشيء حتى يجتمعا “”
والحكمان أساسا لا يجب اختلافهما لأنهما لو اختلفا فأحدهما لا يريد الإصلاح وهو الغرض من مهمتهما ومن ثم فهو لا يصلح للمهمة ومن ثم يختار القاضى أخر يريد الإصلاح
وتحدث عن غياب الأزواج فقال :
15- أثر غياب الزوجين
إذا غاب الزوجان أو أحدهما هل ينقطع نظر الحكمين أم لا ؟ قولان مبينان على أنهما وكيلان أم حكمان فإن قلنا هما حكمان لم ينقطع نظرهما وان قلنا هما وكيلان انقطع نظرهما وهو الصحيح من مذهب الحنابلة والشافعية وذلك لان كل واحد من الزوجين محكوم له وعليه والقضاء للغائب لا يجوز إلا أن يكونا قد وكلاهما فيفعلان ذلك بحكم التوكيل وان كان أحدهما قد وكل جاز لوكيل فعل ما وكله فيه مع غيبته
فرع
لو جن أحد الزوجين بطل حكم وكيله لأن الوكالة تبطل بجنون الموكل وان كان حكما لم يجز له الحكم لأن من اثر ذلك بقاء الشقاق وحضور المتداعين ولا يتحقق ذلك مع الجنون ”
غياب الزوج أو الزوجة بمعنى وفاتهما أو بمعنى فقدهما أو غير هذا يعنى انتهاء المشكلة لأن الزوجية انعدمت بغيابه ومن ثم لا مجال للإصلاح لعدم وجود الطرف الثانى
وتحدث عن عودة الزوجين للشقاق بعد الإصلاح فقال :
16- عودة الزوجين للشقاق
قال الإمام الشافعي ” ولو عاد الشقاق عادا للحكمين ولم تكن الأولى أولى من الثانية فان شأنهما بعد مرة أو مرتين وأكثر واحد في الحكمين ”
إذا عاد الشقاق عاد القاضى لإرسال الحكمين وتحدث عن أحكام الموضوع فى القانون العراقى وهو نفس ما سبق ذكره ثم نصح الناس بوجوب تفعيل دور التحكيم فى المشاكل الزوجية فقال :
17…
18- تفعيل دور التحكيم في حل النزاعات الزوجية
نظام التحكيم الذي جاءت به الشريعة الإسلامية في حالة حدوث الشقاق بين الزوجين نظام مهم ومفيد يحل مشاكل كثيرة قد تقع بين الزوجين وما تسببه هذه المشاكل من شقاق بينهما قد يؤدي إلى الطلاق الا ان هذا النظام العظيم لم يعط العناية الكافية لا من القضاة ولا من أهل الزوجين
ومما يساعد على تنشيط نظام التحكيم وحمل القضاة على تطبيقه اتخاذ الإجراءات الآتية
1 اعتبار أهل الزوجين من ذوي الشأن بدعاوى الشقاق بين الزوجين وأن لهم إعلام القاضي بالشقاق الحاصل بين الزوجين وطلب تدخله بإرسال حكمين للنظر في موضوع الشقاق هذا بالإضافة إلى حق الزوجة برفع أمرها إلى القاضي بشأن الشقاق الحاصل بينهما وبين زوجها
على ولي الأمر أن يعلن أنه لا يجوز للقاضي الحكم بالتفريق للضرر أو الشقاق إلا بعد إرسال حكمين إلى الزوجين للنظر في موضوع الشقاق ورفع التوصية إلى القاضي
3 من المستحسن أن لا يقضي القاضي بأي نزاع بشأن النفقة أو نشوز الزوجة أو نحو ذلك من المنازعات التي تحدث بين الزوجين إلا بعد إرسال الحكمين لتحري أسباب هذا النزاع لان هذه الدعاوى لا تحدث إلا نتيجة خلاف وشقاق بين الزوجين وان لم يبين الزوجان ذلك وقد يستطيع الحكمان إزالة الشقاق والنزاع وبالتالي ترك الدعوى المقامة إذا أديا دورهما على الوجه المطلوب”
والخطأ هنا هو دور ولى ألأمر فولى الأمر لا يعالج تلك المسائل وإنما قاضى البلدة المختص بالزواج والطلاق هو من يعالج تلك القضايا حسب أحكام الشرع وليس فى الشرع تطليق من القاضى إلا فى حالة غياب الزوج عن زوجته عمدا أكثر من أربعة أشهر دون أن يعود إليها عند نهاية الشهور الأربعة فهذا الأمر شرعه الله حماية لها من الوقوع فى الزنى