الباحث هو أحمد أمحرزي علوي والكتاب يدور حول فتوى المعافرى المالكى فى إباحة ذبائح أهل الكتاب كلها وقد ألف البحث لبيان تلك الفتوى وهو قوله:
“شكلت فتوى أبي بكر بن العربي المعافري الفقيه المالكي في حكم جواز أكل ذبائح أهل الكتاب على أي صفة ذكيت مرجعا لبعض الفقهاء قديما وحديثا، في الترويج لإباحة طعام أهل الكتاب، والدعوة إلى أكل ذبائحهم، في كل حال وأنه ليس في ذلك حرج ولو من غير ضرورة لقوله ـ تعالى ـ: ((وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم)) “
وقد قام علوى ببيان ما فى الفتوى من أخطاء فقال :
“ونظرا لما تنطوي عليه هذه الفتوى من مآخذ ولما يترتب عليها من عواقب، وأيضا لما يتضمنه كلام ابن العربي من تناقض فقد آثرت أن أبين وجه الحق في ذلك حتى يتضح المراد وتنكشف الغشاوة، وذلك من خلال الأمور التالية:
أولا: حكم ذبائح أهل الكتاب:
أجمع الفقهاء في الجملة على إباحة ذبائح أهل الكتاب لقوله تعالى : ((اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم)) ، والجائز هو ما يعتقدونه في شريعتهم حلالا لهم، إلا ما حرم علينا كلحم الميته والخنزير والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وغيرها، ولو لم يعلم أنهم سموا الله ـ تعالى ـ. قال الإمام النووي: (ذبيحة أهل الكتاب حلال سواء ذكروا اسم الله ـ تعالى ـ عليه أم لا؛ لظاهر القرآن العزيز؛ هذا مذهبنا ومذهب الجمهور)، وكره مالك والشافعي وأحمد في رواية، ما ذبحوه لكنائسهم وأعيادهم؛ لما فيها من تعظيم شركهم، ولأن الذابح قصد بقلبه الذبح لغير الله ـ تعالى ـ مع تركه التسمية، قال النووي: (فإن ذبحوا لكنائسهم فقد كرهه ميمون بن مهران وحماد والنخعي ومالك والليث وأبو حنيفة وإسحاق وأحمد وجمهور العلماء، ومذهبنا تحريمه) كما أجمعوا أيضا على أن ذبائحهم لا تحل إلا إذا ذكيت بالطريقة التي تتم بها الذكاة عند المسلمين، وكره مالك أكل ذبائحهم ولو استوفت جميع الشروط؛ ففي المدونة: (قلت: هل كان يكره مالك ذبائح اليهود والنصارى من أهل الحرب؟ قال: أهل الحرب والذين عندنا ـ أهل الذمة ـ من النصارى واليهود عند مالك سواء في ذبائحهم، وهو يكره ذبائحهم كلها من غير أن يحرمها، ويكره اشتراء اللحم من مجازرهم ولا يراه محرما)”
الفقهاء جميعا تركوا نص الآية وعالجوا مشكلة الذبائح فقط مع أن لفظ الآية ” طعام”والذبائح تدخل ضمن الطعام وما حرمه الله على المسلمين هو محرم سواء اتفق مع أديان ألأهل الكتاب أم لا للنص على ذلك فى كل آيات التحريم
الطعام إذا كلمة عامة وهى تشمل منتجات نباتية وحيوانية معا فالآية لا تتحدث عن الذبائح خاصة وإنما تتحدث عن الطعام عامة
ثم قال :
“ثانيا: حكم أكل ما ذبحوه من كل ذي ظفر:
حرم الله ـ عز وجل ـ على أهل الكتاب كل ذي ظفر، قال ـ تعالى ـ: ((وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر)) والمراد به ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل والنعام والأوز والبط وما يصيد بظفره من سباع الطير والكلاب
واختلف فقهاء المالكية فيما لو ذبح أهل الكتاب كل ذي ظفر، فأجاز أكله ابن وهب وجمهور العلماء.
وقال أصبغ وأشهب وابن القاسم وابن حبيب: ما كان محرما في كتاب الله من ذبائحهم فلا يحل أكله؛ لأنهم يدينون بتحريمها، واختاره ابن العربي فقال: (والصحيح تحريمه؛ لأن ذبحه منهم ليس بذكاة) والصحيح الذي عليه جمهور العلماء جواز أكله إلا ما ثبت تحريمه في شريعتنا”
المحرم هو المحرم على المسلمين وليس المحرم على الكتابيين فمتى ذبحوا مخالفين دينهم فهو حلال للمسلمين لأن الله لم يجرمه عليهم ومن حرم ما أحل الله فقد كفر وكرر نفس المسألة فقال :
“الأمر الثالث: حكم أكل ما حرم على أهل الكتاب:
اختلف الفقهاء في ما لو ذبح أهل الكتاب ما أحل الله لهم في التوراة وتركوا ما حرم عليهم مثل شحومهما إلا ما حملت ظهورهما، هل يحل لنا أم لا؟ قال مالك في رواية: هي محرمة، وقال ابن القاسم: أكرهه؛ واختاره ابن الجلاب، وروي عن مالك أنها حلال، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وعامة أهل العلم واختاره ابن العربي فقال: (والصحيح أكلها؛ لأن الله رفع التحريم بالإسلام ولا يضر اعتقادهم عند ذكاتها بأنها محرمة، فإنه اعتقاد فاسد) قال القرطبي: (ويدل على صحته ما رواه الشيخان عن عبد الله بن مغفل قال: كنا محاصرين قصر خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم، فنزوت لآخذه فالتفت فإذا النبي -صلى الله عليه وسلم-، فاستحييت منه ولفظ البخاري، ولفظ مسلم: قال عبد الله بن مغفل: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر، قال: فالتزمته، وقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا، قال: فالتفت فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مبتسما، قال علماؤنا: تبسمه ـ عليه السلام ـ إنما كان لما رأى من شدة حرص ابن مغفل على أخذ الجراب ومن ضنته به ولم يأمره بطرحه ولا نهاه. وعلى جواز الأكل مذهب أبي حنيفة والشافعي وعامة العلماء؛ غير أن مالكا كرهه للخلاف فيه، وحكى ابن المنذر عن مالك تحريمها وإليه ذهب كبراء أصحاب مالك؛ ومتمسكهم أنهم يدينون بتحريمها ولا يقصدونها عند الذكاة فكانت محرمة كالدم، والحديث حجة عليهم)”
وما قاله الباحث من الأحاديث مناقض لبعضه فالرواية ألأولى تدل على أن الرجل لم يأخذ جراب الشحم حياء وهو قوله” فنزوت لآخذه فالتفت فإذا النبي (ص) فاستحييت منه”والثانية تدل على أنه أخذه وهى” فالتزمته، وقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا”
وأما الحكم فهو ما حرمه الله على المسلمين فهو حرام وما أحله لهم فهو حلال فهم ليسوا تابعين لحكم الله فى الكتابيين لكونهم كفروا بالرسالة الأخيرة
ثم ناقش فتوى ابن العربى فقال :
“رابعا: فتوى ابن العربي والرد عليها:
تقدم إجماع العلماء على أن ذبائح أهل الكتاب لا تحل إلا إذا ذكيت بالطريقة التي تتم بها الذكاة عند المسلمين، وذلك بقطع الودجين والحلقوم والمريء واضطرب كلام ابن العربي في هذه المسألة، فذكر في موضع من الأحكام الكبرى أن الجائز هو ما يعتقدونه في شريعتهم حلالا لهم إلا ما حرم علينا كالخنزير، وكانت ذكاته مقبولة عند المسلمين، فقال: (فإن قيل: فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس؟ فالجواب: أن هذه ميتة وهي حرام بالنص؛ وإن أكلوها فلا نأكل نحن، كالخنزير؛ فإنه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام علينا)، فوافق بهذا جمهور أهل العلم واختار في موضع آخر أكلها كيفما كانت تذكيتها فقال: (وقوله تعالى: ((أحل لكم الطيبات وما علمتم..)) إلى قوله: ((أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب)) دليل قاطع على أن الصيد وطعام أهل الكتاب من الطيبات التي أباحها الله ـ عز وجل ـ وهو الحلال المطلق، وإنما كرره ـ سبحانه ـ ليرفع الشكوك ويزيل الاعتراضات، ولكن الخواطر الفاسدة هو التي توجب الاعتراضات وتخرج إلى تطويل القول. ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها هل يؤكل معه أو تؤخذ طعاما منه؟ فقلت: تؤكل؛ لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه، وإن لم تكن هذه ذكاة عنده، ولكن الله أباح طعامهم مطلقا، وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا وفي ديننا إلا ما كذبهم الله ـ سبحانه ـ فيه)
وقد لاحظ البعض على هذا الكلام ما يلي:
– أن قوله في الموضع الأول: (فإن قيل فما أكلوه على غير وجه…) غير موجود في الأحكام الصغرى له، ولا في غيرها من كتبه، وغير موجود في إحدى النسخ الخمس المخطوطة لأحكام القرآن الكبرى كما نبه على ذلك محمد علي البجاوي ومحمد عبد القادر عطا، مما جعل البعض يعتبر الكلام مدسوسا عليه.
– إن هذا الكلام جاء عرضا؛ إذ إن الحديث قبله وبعده وارد عن التسمية لا عن التذكية.
– إن القرطبي وهو الذي نقل كلام ابن العربي في تفسيره لم يشر إلى هذه الفتوى أصلا.
– إن الشيخ صالح العود في كتابه: (أحكام الذكاة في الإسلام) نفى أن يكون ابن العربي أفتى بجواز أكل الدجاج المفتول العنق، واعتبر ذلك مدسوسا عليه، لكن وجود ذلك في كتبه وكتب من نقلوا عنه يرده.
والذي يتضح من خلال مطالعاتي لكتب ابن العربي المخطوط منها والمطبوع، واستقرائي لآرائه الفقهية أن كل ذلك من كلامه ولا وجه لنفيه عنه أو نفي اضطرابه فيه كما سيتضح، والذي يقرر ذلك أن عددا من المالكية نقلوا كلامه واستشكل عليهم، وحاول أبو عبد الله الحفار المالكي حل هذا الإشكال، فقال: (ولا إشكال فيها عند التأمل؛ لأن الله ـ تعالى ـ أباح لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه في دينهم على الوجه الذي أبيح لهم من ذكاة فيما شرعت لهم فيه الذكاة على الوجه الذي شرعت، ولا يشترط أن تكون ذكاتهم موافقة لذكاتنا في ذلك الحيوان المذكى)
ولم يقدم ابن الحفار كابن العربي دليلا على كلامه واكتفى بقوله: (قد يكون شرع في غير ملتنا سل عنق الحيوان، على وجه الذكاة، فإذا اجتزأ الكتابي بذلك أكلنا طعامه كما أذن لنا ربنا ـ سبحانه ـ ولا يلزمنا أن نبحث عن شريعتهم في ذلك) وإلى هذا الكلام أيضا مال الونشريسي في المعيار، والزياتي والوزاني في النوازل الصغرى.
وأفتى به الشيخ محمد عبده ورشيد رضا، والدكتور يوسف القرضاوي، والشيح حسنين محمد مخلوف، والشيخ محمد بيرم، والشيخ عبد الله بن زيد بن محمود وغيرهم”
الباحث هنا اقتنع بأن ابن العربى المعافرى هو قائل الكلام وأنه ليس مدسوسا عليه وهذه وجهة نظر الله أعلم بصحتها من بطلانها لأن أكثر من99% من كتب التراث لم يكتبها المؤلفون الموضوع أسماءهم عليها وإنما ألفها الكفار ونسبوها إليهم لايقاع الخلاف باستمرار بين المسلمين وهو أمر مستمر من آلاف السنين أو حسب التاريخ المزور الحالى ألف ونصف تقريبا ثم ذكر علوى أراء المعاصرين فقال :
“آراء العلماء المعاصرين في المسألة:
يقول محمد عبده: (وأما الذبائح فالذي أراه أن يأخذ المسلمون في تلك الأطراف بنص كتاب الله ـ تعالى ـ في قوله: ((وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم)) وأن يعولوا على ما قاله أبو بكر بن العربي المالكي من أن المدار على أن يكون ما يذبح مأكول أهل الكتاب قسيسهم وعامتهم، ويعد طعاما لهم كافة) وقال رشيد رضا بعد أن نقل أقوال المفسرين في جواز أكل ذبائح أهل الكتاب: (فعلم من هذه النقول أن ذبائح أهل الكتاب حلال عند جماهير المسلمين، وإن لم يكن ذبحها على الطريقة الإسلامية، بل وإن كانت على خلاف الطريقة الإسلامية عملا بمطلق الآية الكريمة التي هي آخر ما ورد في الأكل نزولا)
وقال يوسف القرضاوي بعد أن نقل كلام ابن العربي: (وعلى ضوء ما ذكرنا نعرف الحكم في اللحوم المستوردة من عند أهل الكتاب كالدجاج ولحوم البقر المحفوظة، مما قد تكون تذكيته بالصعق الكهربائي ونحوه؛ فما داموا يعتبرون هذا حلالا مذكى فهو حل لنا وفق عموم الآية)
غير أن كثيرا من شيوخ المالكية وقفوا في وجه هذه الفتوى لابن العربي حتى قال البسطامي: (ليت قوله لم يخرج للوجود ولا سطر في كتب الإسلام) وقال ابن سراج: (إن ما وقع لا بن العربي هفوة)
واعتبروا فتواه هذه شذوذا، قال الطاهر بن عاشور: وقول ابن العربي شذوذ
وردوا على استدلاله بأن أحبارهم يصدقون في قولهم أن ذلك من طعامهم ـ بأن أهل الكتاب لا يصدقون ولا يكذبون كما ورد في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم) قال ابن حجر: (لم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بخلافه؛ نبه على ذلك الشافعي)”
وهذا الحديث لا يصح فلا يوجد شىء اسمه لا تصديق ولا تكذيب فالأمر إما هذا وإما ذلك مع وجود النصوص على الحل والحرمة فالنبى(ص) لا يمكن أن يقول ذلك مع أمر الله بعدم اتباعهم فى قوله تعالى :
“وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله”
ثم قال:
” وقد أجمع العلماء على أن شرع من قبلنا لا يجوز العمل به إذا كان شرعنا مخالفا له وبهذا يتضح أن دعوى ابن العربي أن كل ما يراه أهل الكتاب في دينهم فهو حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه، معارضة للنصوص والإجماع الدال دلالة قطعية على تحريم العمل بما يرونه في دينهم إذا كان مخالفا لشريعتنا، وعلى فرض تصديقهم، فلا وجه لتصديقهم في أن المنخنقة ومسلولة العنق والموقوذة المضروبة في الرأس بشاقور مثلا حلال عندهم، وعدم تصديقهم في أن الميتة والخنزير حلال عندهم، وما فرق به من أن الله قد كذبهم في الخمر والخنزير دون المضروبة بشاقور مثلا وما ذكر معه لا يصح؛ لأنه إن عني أن الله كذبهم في أخبارهم بحليتها، فليس في القرآن ولا في الأحاديث شيء من ذلك، وإن عني أن الله كذبهم بقوله: ((حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير)) فهذه مصادرة؛ لأن الله قد كذبهم فيما زعم أنهم يصدقون فيه؛ لأنها إما منخنقة أو موقوذة، وقد ذكر الله حرمة كل واحدة منهما في الآية نفسها
وقد اعترف بهذا ابن العربي فقال في الأحكام: (وأما قولهم: إن الله حرم غير ذلك كالمنخنقة وأخواتها فإن ذلك داخل في الميتة؛ وشرح ما يستدرك ذكاته مما تفوت ذكاته لئلا يشكل أمرها ويمزج الحلال بالحرام في حكمها)
فإذا كانت المنخنقة ميتة باعترافه فكيف لا تكون الدجاجة المفتولة العنق ميتة؟ وفتل العنق والخنق شقيقان؛ لأن معناهما واحد عقلا وحسا ومشاهدة، وهذا أيضا بإقرار ابن العربي نفسه حيث قال: (المنخنقة هي التي تخنق بحبل بقصد أو غير قصد أو غير حبل)
فاتضح مما تقدم تناقض ابن العربي وغرابة فتواه، ولذلك لم يذكرها القرطبي في تفسيره وهو ممن نقل جل كلام ابن العربي، ولم يقل بها أحد من العلماء قبله ولا وجه لما قاله رشيد رضا من أن جواز أكلها مذهب جماهير المسلمين، ولا لما قاله القرضاوي من أنه مذهب فقهاء المالكية، بل صرحوا بعكس ما قاله تماما، يقول الباجي: (وإذا علمت أن من دينه النصرانية ممن يستبيح الميتة فلا تأكل من ذبيحته إلا ما شاهدت ذبيحته؛ ووجه ذلك أنه إنما يستباح من ذبيحته ما وقع على وجه الصحة، والمسلم أصح ذبيحة وهذا حكمه، فإذا علم أنه ربما قتل الحيوان على الوجه الذي لا يبيج أكله وجب الامتناع من أكل ما مات على يده من الحيوان إلا أن يعلم أن ذكاته وجدت منه على وجه الصحة)
وقد ساق ابن العربي في المسالك هذا الكلام نفسه وأقره ونص في موضع آخر على أن من شرط الذابح غير المسلم أن يكون كتابيا، وأن يكون عارفا بالذبح وشروطه؛ لأنه إن لم يكن عارفا بالذبح آلم الحيوان وحرم الأكل منه”
وكرر علوى وجود تناقض فى كتب ابن العربى وأن فتواه تلك تخالف القرآن
وأنهى علوى بحثه بما يأتى:
“زبدة القول:
والخلاصة: أن ذبيحة الكتابي لا يحل منها إلا ما كان بذكاة صحيحة معتبرة شرعا، وأن ما كان منه بفتل العنق أو الصدمة الكهربائية أو ضرب الرأس وغيره فهو ميتة لا يحل أكله بوجه من الوجوه، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لا ينبغي للمسلم أن يتخذ أهل الكتاب ذباحين؛ لأن في ذلك موالاة لهم كما نبه على ذلك ابن عبد البر وغيره
وقد كان الباجي دقيقا في كلامه حين اشترط في الإباحة (مشاهدة ذبح الكتابي) وهو توجيه دقيق؛ إذ كثيرا ما تكون ذبائحهم على غير الوجه المشروع فيختمون عليها ـ خاصة في زماننا هذا ـ بختم يوهم أنها ذبحت على الطريقة الإسلامية لكي يروج شراؤها في صفوف المسلمين وقد انطلت هذه الحيلة الماكرة على كثير من المسلمين مع قيام الأدلة على أن ذلك مجرد خداع لابتزاز الأموال، بل ويقصد بذلك أحيانا الاستخفاف بعقول المسلمين؛ فقد ذكرت مجلة الاقتصاد الإسلامي وجريدة الشرق الأوسط منذ مدة، أن بلاد غير المسلمين لا تقوم بعملية الذبح الشرعي بل تقدم لحوما توصف بأنها ميتة أو منخنقة أو موقوذة… وليس ببعيد عنا ما سمعناه عن صفقات الدجاج المستورد الذي وصل إلى أبو ظبي ودبي ووجدت رقبته كاملة وسليمة دون أي أثر للذبح رغم كتابة العبارة التقليدية عليها أنها ذبحت حسب الشريعة الإسلامية، بل وبلغ الاستخفاف بعقول المسلمين أن وجد مكتوبا على صناديق السمك المستورد أنه ذبح حسب الشريعة الإسلامية”
والكلام فى الموضوع أنه لا يجب استيراد ذبائح من دول الكتابيين وذلك منها للشبهات ويجوز استيراد الأنعام والطيور منهم حية لتذبح فى بلاد المسلمين وأما ما كان من واجب الضيافة هنا أو عندهم فى بلادهم فالمسلم مخير فى الأكل من عدمه إذا كان لم ير عملية الذبح وأما إذا رآها وكانت بطريقة مباحة فهى حلال وأما إن كانت بطريقة محرمة فهى حرام
“شكلت فتوى أبي بكر بن العربي المعافري الفقيه المالكي في حكم جواز أكل ذبائح أهل الكتاب على أي صفة ذكيت مرجعا لبعض الفقهاء قديما وحديثا، في الترويج لإباحة طعام أهل الكتاب، والدعوة إلى أكل ذبائحهم، في كل حال وأنه ليس في ذلك حرج ولو من غير ضرورة لقوله ـ تعالى ـ: ((وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم)) “
وقد قام علوى ببيان ما فى الفتوى من أخطاء فقال :
“ونظرا لما تنطوي عليه هذه الفتوى من مآخذ ولما يترتب عليها من عواقب، وأيضا لما يتضمنه كلام ابن العربي من تناقض فقد آثرت أن أبين وجه الحق في ذلك حتى يتضح المراد وتنكشف الغشاوة، وذلك من خلال الأمور التالية:
أولا: حكم ذبائح أهل الكتاب:
أجمع الفقهاء في الجملة على إباحة ذبائح أهل الكتاب لقوله تعالى : ((اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم)) ، والجائز هو ما يعتقدونه في شريعتهم حلالا لهم، إلا ما حرم علينا كلحم الميته والخنزير والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وغيرها، ولو لم يعلم أنهم سموا الله ـ تعالى ـ. قال الإمام النووي: (ذبيحة أهل الكتاب حلال سواء ذكروا اسم الله ـ تعالى ـ عليه أم لا؛ لظاهر القرآن العزيز؛ هذا مذهبنا ومذهب الجمهور)، وكره مالك والشافعي وأحمد في رواية، ما ذبحوه لكنائسهم وأعيادهم؛ لما فيها من تعظيم شركهم، ولأن الذابح قصد بقلبه الذبح لغير الله ـ تعالى ـ مع تركه التسمية، قال النووي: (فإن ذبحوا لكنائسهم فقد كرهه ميمون بن مهران وحماد والنخعي ومالك والليث وأبو حنيفة وإسحاق وأحمد وجمهور العلماء، ومذهبنا تحريمه) كما أجمعوا أيضا على أن ذبائحهم لا تحل إلا إذا ذكيت بالطريقة التي تتم بها الذكاة عند المسلمين، وكره مالك أكل ذبائحهم ولو استوفت جميع الشروط؛ ففي المدونة: (قلت: هل كان يكره مالك ذبائح اليهود والنصارى من أهل الحرب؟ قال: أهل الحرب والذين عندنا ـ أهل الذمة ـ من النصارى واليهود عند مالك سواء في ذبائحهم، وهو يكره ذبائحهم كلها من غير أن يحرمها، ويكره اشتراء اللحم من مجازرهم ولا يراه محرما)”
الفقهاء جميعا تركوا نص الآية وعالجوا مشكلة الذبائح فقط مع أن لفظ الآية ” طعام”والذبائح تدخل ضمن الطعام وما حرمه الله على المسلمين هو محرم سواء اتفق مع أديان ألأهل الكتاب أم لا للنص على ذلك فى كل آيات التحريم
الطعام إذا كلمة عامة وهى تشمل منتجات نباتية وحيوانية معا فالآية لا تتحدث عن الذبائح خاصة وإنما تتحدث عن الطعام عامة
ثم قال :
“ثانيا: حكم أكل ما ذبحوه من كل ذي ظفر:
حرم الله ـ عز وجل ـ على أهل الكتاب كل ذي ظفر، قال ـ تعالى ـ: ((وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر)) والمراد به ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل والنعام والأوز والبط وما يصيد بظفره من سباع الطير والكلاب
واختلف فقهاء المالكية فيما لو ذبح أهل الكتاب كل ذي ظفر، فأجاز أكله ابن وهب وجمهور العلماء.
وقال أصبغ وأشهب وابن القاسم وابن حبيب: ما كان محرما في كتاب الله من ذبائحهم فلا يحل أكله؛ لأنهم يدينون بتحريمها، واختاره ابن العربي فقال: (والصحيح تحريمه؛ لأن ذبحه منهم ليس بذكاة) والصحيح الذي عليه جمهور العلماء جواز أكله إلا ما ثبت تحريمه في شريعتنا”
المحرم هو المحرم على المسلمين وليس المحرم على الكتابيين فمتى ذبحوا مخالفين دينهم فهو حلال للمسلمين لأن الله لم يجرمه عليهم ومن حرم ما أحل الله فقد كفر وكرر نفس المسألة فقال :
“الأمر الثالث: حكم أكل ما حرم على أهل الكتاب:
اختلف الفقهاء في ما لو ذبح أهل الكتاب ما أحل الله لهم في التوراة وتركوا ما حرم عليهم مثل شحومهما إلا ما حملت ظهورهما، هل يحل لنا أم لا؟ قال مالك في رواية: هي محرمة، وقال ابن القاسم: أكرهه؛ واختاره ابن الجلاب، وروي عن مالك أنها حلال، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وعامة أهل العلم واختاره ابن العربي فقال: (والصحيح أكلها؛ لأن الله رفع التحريم بالإسلام ولا يضر اعتقادهم عند ذكاتها بأنها محرمة، فإنه اعتقاد فاسد) قال القرطبي: (ويدل على صحته ما رواه الشيخان عن عبد الله بن مغفل قال: كنا محاصرين قصر خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم، فنزوت لآخذه فالتفت فإذا النبي -صلى الله عليه وسلم-، فاستحييت منه ولفظ البخاري، ولفظ مسلم: قال عبد الله بن مغفل: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر، قال: فالتزمته، وقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا، قال: فالتفت فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مبتسما، قال علماؤنا: تبسمه ـ عليه السلام ـ إنما كان لما رأى من شدة حرص ابن مغفل على أخذ الجراب ومن ضنته به ولم يأمره بطرحه ولا نهاه. وعلى جواز الأكل مذهب أبي حنيفة والشافعي وعامة العلماء؛ غير أن مالكا كرهه للخلاف فيه، وحكى ابن المنذر عن مالك تحريمها وإليه ذهب كبراء أصحاب مالك؛ ومتمسكهم أنهم يدينون بتحريمها ولا يقصدونها عند الذكاة فكانت محرمة كالدم، والحديث حجة عليهم)”
وما قاله الباحث من الأحاديث مناقض لبعضه فالرواية ألأولى تدل على أن الرجل لم يأخذ جراب الشحم حياء وهو قوله” فنزوت لآخذه فالتفت فإذا النبي (ص) فاستحييت منه”والثانية تدل على أنه أخذه وهى” فالتزمته، وقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا”
وأما الحكم فهو ما حرمه الله على المسلمين فهو حرام وما أحله لهم فهو حلال فهم ليسوا تابعين لحكم الله فى الكتابيين لكونهم كفروا بالرسالة الأخيرة
ثم ناقش فتوى ابن العربى فقال :
“رابعا: فتوى ابن العربي والرد عليها:
تقدم إجماع العلماء على أن ذبائح أهل الكتاب لا تحل إلا إذا ذكيت بالطريقة التي تتم بها الذكاة عند المسلمين، وذلك بقطع الودجين والحلقوم والمريء واضطرب كلام ابن العربي في هذه المسألة، فذكر في موضع من الأحكام الكبرى أن الجائز هو ما يعتقدونه في شريعتهم حلالا لهم إلا ما حرم علينا كالخنزير، وكانت ذكاته مقبولة عند المسلمين، فقال: (فإن قيل: فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس؟ فالجواب: أن هذه ميتة وهي حرام بالنص؛ وإن أكلوها فلا نأكل نحن، كالخنزير؛ فإنه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام علينا)، فوافق بهذا جمهور أهل العلم واختار في موضع آخر أكلها كيفما كانت تذكيتها فقال: (وقوله تعالى: ((أحل لكم الطيبات وما علمتم..)) إلى قوله: ((أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب)) دليل قاطع على أن الصيد وطعام أهل الكتاب من الطيبات التي أباحها الله ـ عز وجل ـ وهو الحلال المطلق، وإنما كرره ـ سبحانه ـ ليرفع الشكوك ويزيل الاعتراضات، ولكن الخواطر الفاسدة هو التي توجب الاعتراضات وتخرج إلى تطويل القول. ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها هل يؤكل معه أو تؤخذ طعاما منه؟ فقلت: تؤكل؛ لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه، وإن لم تكن هذه ذكاة عنده، ولكن الله أباح طعامهم مطلقا، وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا وفي ديننا إلا ما كذبهم الله ـ سبحانه ـ فيه)
وقد لاحظ البعض على هذا الكلام ما يلي:
– أن قوله في الموضع الأول: (فإن قيل فما أكلوه على غير وجه…) غير موجود في الأحكام الصغرى له، ولا في غيرها من كتبه، وغير موجود في إحدى النسخ الخمس المخطوطة لأحكام القرآن الكبرى كما نبه على ذلك محمد علي البجاوي ومحمد عبد القادر عطا، مما جعل البعض يعتبر الكلام مدسوسا عليه.
– إن هذا الكلام جاء عرضا؛ إذ إن الحديث قبله وبعده وارد عن التسمية لا عن التذكية.
– إن القرطبي وهو الذي نقل كلام ابن العربي في تفسيره لم يشر إلى هذه الفتوى أصلا.
– إن الشيخ صالح العود في كتابه: (أحكام الذكاة في الإسلام) نفى أن يكون ابن العربي أفتى بجواز أكل الدجاج المفتول العنق، واعتبر ذلك مدسوسا عليه، لكن وجود ذلك في كتبه وكتب من نقلوا عنه يرده.
والذي يتضح من خلال مطالعاتي لكتب ابن العربي المخطوط منها والمطبوع، واستقرائي لآرائه الفقهية أن كل ذلك من كلامه ولا وجه لنفيه عنه أو نفي اضطرابه فيه كما سيتضح، والذي يقرر ذلك أن عددا من المالكية نقلوا كلامه واستشكل عليهم، وحاول أبو عبد الله الحفار المالكي حل هذا الإشكال، فقال: (ولا إشكال فيها عند التأمل؛ لأن الله ـ تعالى ـ أباح لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه في دينهم على الوجه الذي أبيح لهم من ذكاة فيما شرعت لهم فيه الذكاة على الوجه الذي شرعت، ولا يشترط أن تكون ذكاتهم موافقة لذكاتنا في ذلك الحيوان المذكى)
ولم يقدم ابن الحفار كابن العربي دليلا على كلامه واكتفى بقوله: (قد يكون شرع في غير ملتنا سل عنق الحيوان، على وجه الذكاة، فإذا اجتزأ الكتابي بذلك أكلنا طعامه كما أذن لنا ربنا ـ سبحانه ـ ولا يلزمنا أن نبحث عن شريعتهم في ذلك) وإلى هذا الكلام أيضا مال الونشريسي في المعيار، والزياتي والوزاني في النوازل الصغرى.
وأفتى به الشيخ محمد عبده ورشيد رضا، والدكتور يوسف القرضاوي، والشيح حسنين محمد مخلوف، والشيخ محمد بيرم، والشيخ عبد الله بن زيد بن محمود وغيرهم”
الباحث هنا اقتنع بأن ابن العربى المعافرى هو قائل الكلام وأنه ليس مدسوسا عليه وهذه وجهة نظر الله أعلم بصحتها من بطلانها لأن أكثر من99% من كتب التراث لم يكتبها المؤلفون الموضوع أسماءهم عليها وإنما ألفها الكفار ونسبوها إليهم لايقاع الخلاف باستمرار بين المسلمين وهو أمر مستمر من آلاف السنين أو حسب التاريخ المزور الحالى ألف ونصف تقريبا ثم ذكر علوى أراء المعاصرين فقال :
“آراء العلماء المعاصرين في المسألة:
يقول محمد عبده: (وأما الذبائح فالذي أراه أن يأخذ المسلمون في تلك الأطراف بنص كتاب الله ـ تعالى ـ في قوله: ((وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم)) وأن يعولوا على ما قاله أبو بكر بن العربي المالكي من أن المدار على أن يكون ما يذبح مأكول أهل الكتاب قسيسهم وعامتهم، ويعد طعاما لهم كافة) وقال رشيد رضا بعد أن نقل أقوال المفسرين في جواز أكل ذبائح أهل الكتاب: (فعلم من هذه النقول أن ذبائح أهل الكتاب حلال عند جماهير المسلمين، وإن لم يكن ذبحها على الطريقة الإسلامية، بل وإن كانت على خلاف الطريقة الإسلامية عملا بمطلق الآية الكريمة التي هي آخر ما ورد في الأكل نزولا)
وقال يوسف القرضاوي بعد أن نقل كلام ابن العربي: (وعلى ضوء ما ذكرنا نعرف الحكم في اللحوم المستوردة من عند أهل الكتاب كالدجاج ولحوم البقر المحفوظة، مما قد تكون تذكيته بالصعق الكهربائي ونحوه؛ فما داموا يعتبرون هذا حلالا مذكى فهو حل لنا وفق عموم الآية)
غير أن كثيرا من شيوخ المالكية وقفوا في وجه هذه الفتوى لابن العربي حتى قال البسطامي: (ليت قوله لم يخرج للوجود ولا سطر في كتب الإسلام) وقال ابن سراج: (إن ما وقع لا بن العربي هفوة)
واعتبروا فتواه هذه شذوذا، قال الطاهر بن عاشور: وقول ابن العربي شذوذ
وردوا على استدلاله بأن أحبارهم يصدقون في قولهم أن ذلك من طعامهم ـ بأن أهل الكتاب لا يصدقون ولا يكذبون كما ورد في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم) قال ابن حجر: (لم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بخلافه؛ نبه على ذلك الشافعي)”
وهذا الحديث لا يصح فلا يوجد شىء اسمه لا تصديق ولا تكذيب فالأمر إما هذا وإما ذلك مع وجود النصوص على الحل والحرمة فالنبى(ص) لا يمكن أن يقول ذلك مع أمر الله بعدم اتباعهم فى قوله تعالى :
“وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله”
ثم قال:
” وقد أجمع العلماء على أن شرع من قبلنا لا يجوز العمل به إذا كان شرعنا مخالفا له وبهذا يتضح أن دعوى ابن العربي أن كل ما يراه أهل الكتاب في دينهم فهو حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه، معارضة للنصوص والإجماع الدال دلالة قطعية على تحريم العمل بما يرونه في دينهم إذا كان مخالفا لشريعتنا، وعلى فرض تصديقهم، فلا وجه لتصديقهم في أن المنخنقة ومسلولة العنق والموقوذة المضروبة في الرأس بشاقور مثلا حلال عندهم، وعدم تصديقهم في أن الميتة والخنزير حلال عندهم، وما فرق به من أن الله قد كذبهم في الخمر والخنزير دون المضروبة بشاقور مثلا وما ذكر معه لا يصح؛ لأنه إن عني أن الله كذبهم في أخبارهم بحليتها، فليس في القرآن ولا في الأحاديث شيء من ذلك، وإن عني أن الله كذبهم بقوله: ((حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير)) فهذه مصادرة؛ لأن الله قد كذبهم فيما زعم أنهم يصدقون فيه؛ لأنها إما منخنقة أو موقوذة، وقد ذكر الله حرمة كل واحدة منهما في الآية نفسها
وقد اعترف بهذا ابن العربي فقال في الأحكام: (وأما قولهم: إن الله حرم غير ذلك كالمنخنقة وأخواتها فإن ذلك داخل في الميتة؛ وشرح ما يستدرك ذكاته مما تفوت ذكاته لئلا يشكل أمرها ويمزج الحلال بالحرام في حكمها)
فإذا كانت المنخنقة ميتة باعترافه فكيف لا تكون الدجاجة المفتولة العنق ميتة؟ وفتل العنق والخنق شقيقان؛ لأن معناهما واحد عقلا وحسا ومشاهدة، وهذا أيضا بإقرار ابن العربي نفسه حيث قال: (المنخنقة هي التي تخنق بحبل بقصد أو غير قصد أو غير حبل)
فاتضح مما تقدم تناقض ابن العربي وغرابة فتواه، ولذلك لم يذكرها القرطبي في تفسيره وهو ممن نقل جل كلام ابن العربي، ولم يقل بها أحد من العلماء قبله ولا وجه لما قاله رشيد رضا من أن جواز أكلها مذهب جماهير المسلمين، ولا لما قاله القرضاوي من أنه مذهب فقهاء المالكية، بل صرحوا بعكس ما قاله تماما، يقول الباجي: (وإذا علمت أن من دينه النصرانية ممن يستبيح الميتة فلا تأكل من ذبيحته إلا ما شاهدت ذبيحته؛ ووجه ذلك أنه إنما يستباح من ذبيحته ما وقع على وجه الصحة، والمسلم أصح ذبيحة وهذا حكمه، فإذا علم أنه ربما قتل الحيوان على الوجه الذي لا يبيج أكله وجب الامتناع من أكل ما مات على يده من الحيوان إلا أن يعلم أن ذكاته وجدت منه على وجه الصحة)
وقد ساق ابن العربي في المسالك هذا الكلام نفسه وأقره ونص في موضع آخر على أن من شرط الذابح غير المسلم أن يكون كتابيا، وأن يكون عارفا بالذبح وشروطه؛ لأنه إن لم يكن عارفا بالذبح آلم الحيوان وحرم الأكل منه”
وكرر علوى وجود تناقض فى كتب ابن العربى وأن فتواه تلك تخالف القرآن
وأنهى علوى بحثه بما يأتى:
“زبدة القول:
والخلاصة: أن ذبيحة الكتابي لا يحل منها إلا ما كان بذكاة صحيحة معتبرة شرعا، وأن ما كان منه بفتل العنق أو الصدمة الكهربائية أو ضرب الرأس وغيره فهو ميتة لا يحل أكله بوجه من الوجوه، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لا ينبغي للمسلم أن يتخذ أهل الكتاب ذباحين؛ لأن في ذلك موالاة لهم كما نبه على ذلك ابن عبد البر وغيره
وقد كان الباجي دقيقا في كلامه حين اشترط في الإباحة (مشاهدة ذبح الكتابي) وهو توجيه دقيق؛ إذ كثيرا ما تكون ذبائحهم على غير الوجه المشروع فيختمون عليها ـ خاصة في زماننا هذا ـ بختم يوهم أنها ذبحت على الطريقة الإسلامية لكي يروج شراؤها في صفوف المسلمين وقد انطلت هذه الحيلة الماكرة على كثير من المسلمين مع قيام الأدلة على أن ذلك مجرد خداع لابتزاز الأموال، بل ويقصد بذلك أحيانا الاستخفاف بعقول المسلمين؛ فقد ذكرت مجلة الاقتصاد الإسلامي وجريدة الشرق الأوسط منذ مدة، أن بلاد غير المسلمين لا تقوم بعملية الذبح الشرعي بل تقدم لحوما توصف بأنها ميتة أو منخنقة أو موقوذة… وليس ببعيد عنا ما سمعناه عن صفقات الدجاج المستورد الذي وصل إلى أبو ظبي ودبي ووجدت رقبته كاملة وسليمة دون أي أثر للذبح رغم كتابة العبارة التقليدية عليها أنها ذبحت حسب الشريعة الإسلامية، بل وبلغ الاستخفاف بعقول المسلمين أن وجد مكتوبا على صناديق السمك المستورد أنه ذبح حسب الشريعة الإسلامية”
والكلام فى الموضوع أنه لا يجب استيراد ذبائح من دول الكتابيين وذلك منها للشبهات ويجوز استيراد الأنعام والطيور منهم حية لتذبح فى بلاد المسلمين وأما ما كان من واجب الضيافة هنا أو عندهم فى بلادهم فالمسلم مخير فى الأكل من عدمه إذا كان لم ير عملية الذبح وأما إذا رآها وكانت بطريقة مباحة فهى حلال وأما إن كانت بطريقة محرمة فهى حرام