الأبعادُ الدلاليَّة في مجموعةِ (عندما يهتز الجسر طربا) القِصَصيَّة للقاص عبد الله حرز البيضاني

أتيحَ ليَّ الاِطلاع مؤخرًا على مجموعةِ قِصَصيَّة أنجزها القَاصِ العراقي عبد الله حرز البيضاني، ووسمها بـ (عندما يهتز الجسر طربا)، والتي تُعَدًّ باكورةُ الأعمالِ الأدبية للكاتب البيضاني التي رأت النور عام 2020م بـ (124) صفحه من القطع المتوسط عن مؤسسةِ ثائر العصامي للطباعةِ والنشر والتوزيع في بغداد. ولعلَّ المثير للاهتمام هو أنَّ المجموعةِ المذكورة،  كشفت عن منجزٍ أدبي يعج بمعانٍ إنسـانيَّة رفيعة اِكتسبها الكاتب من وحيِّ قراءةٍ جادة لمرارةِ الواقع المعاش، فضلًا عن عمقِ تفاعله مع معطياته التي طغى عليها الإحباط والوجع وخيبات الأمل، فكان أنْ صاغَ نصوص مجموعته بأداءٍ سلس، مبرزًا خلاصة أوجاع الذات الإنسانيَّة المتماهية مع روحِ الإبداع، وتطويعها بإيقاعٍ ممزوج بصورٍ فنيَّة قصد مواكبة أجواءِ الحدث السرديّ التي ساهمت في رسمِ ثيمات هذه المجموعة التي جاءت تحمل بين دفتيها تسع قِصَص قصِيرة هي على التوالي: (عندما يهتز الجسر طربا، الحرية تشف من الجهة الأخرى، وتستفيق اللحظات، الطائر الأبيض، سحابة في منام، عندما يكبو الجواد، خلف شباك المرمى، امرأة تحت أغصان شابة والأجساد المتدافعة).

وفي محاولةٍ للاقترابِ أكثر من حيثياتِ نصوص هذه المجموعةِ القِصَصيَّة؛ بغية تلمسِ مظاهر الخطاب السرديّ من حيث الأسلوب والبناء والدلالة لكاتبِها، وجدت من خلالِ قراءتي نصوصها أنَّ القاصَ بث في ثناياها جملة رؤى استمد مقوماتها على نحوٍ استعاريّ من مجرياتِ الحيـاة العامة، ولاسيما البارز من المشاهداتِ، وما تخللها من الوقائع التي ترسخت في ذهنه، وألزمته بتناول قضاياها سردًا؛ لأجلِ اِستكشاف هُمُوم الإنسان وتطلعاته، وما يطمح إليه، إذ تعاملَ مع مخرجاتِ بعض تلك الوقائع والمشاهدات برمزيَّةٍ تعبيريَّة محملة بدلالاتٍ وإيحاءات عبر سردٍ متدفق مستوحى من ثقافةِ المحيط الاِجتماعيّ الذي تعايش معه في طُفولته وصباه، معتمدًا على قناعاته التي تعبر عن انحيازه التام الى ما آمن به من مبادئ داعمة للانتماءِ الوطني.

وبحدودِ مساحة القراءة للمجموعةِ موضوع بحثنا، وجدت من المناسبِ هُنا التدوين على نحوٍ مكثف لأهمِ رؤى الكاتب التي أدركتُ قصديتها عند الولوج في ثنايا قِصته الأولى التي اختارها لتحمل اسم المجموعة نفسها؛ لأنَّ كلَّ نَص من أغلبِ قِصص المجموعة يحتاج إلى بحثٍ مُستقل بقراءةٍ على اِنفراد، فالبيضاني عمد في نصه (عندما يهتز الجسر طربا) إلى الاِتكاءِ على ما اختزنَ من طاقةٍ إيحائيَّة، حيث شرع بتوظيف (الناي) في نسيجِ السَرد بما تحمله هذه الآلة الموسيقيَّة السومريَّة التي تصنع من نباتِ القصب من دلالاتٍ قصديَّة وجماليَّة بوصفها رمزًا للهويَّة والانتماء؛ بغية التعبير عن رؤيته الفكريَّة بمهمةِ تشكيلِ صورة الوطن في وجدانه، فعذوبة صوت الناي تجعل الجسر يهتز طربًا من فرطِ سعادته المتوائمة مع سعةِ نفثاتِ عطاء النهر، ومُتناغِمًا في كينونته مع سرمديةِ إيقاع روافده. وتظهر هذه القصديةِ جليةً في اِستهلالِ قصته تلك التي عبر عنها بالقول: “كل مساء.. أنغام نايه تتوسد مويجات الماء، حيث تاتي مهفهفة من وسط النهر.. راقصة.. راعشة بهدوئها.. تنساب وتغفو تحت قدميه.. تلحقها مويجات أخرى تسير بصمت مع نسيمات الهواء المترنحة فوقها، تقودها كعروس في ليلة زفافها.. تتلوى باتساق متجه نحو الجرف.. لتنام هي الأخرى تحت صدى أنغامه…” ص – 9.

ويبدو أنَّ شغفَ البيضاني بقصديةِ (الناي – الوطن)، مبعثه إلى ما علق بذهنِه من أثرِ لَا يكَاد يُفَارِقهُ للقطاتٍ زمانيَّة مرصودة من ذاكرةٍ تضرب جذورها بعيدًا في مدينةِ الماء التي ولد ونشأ فيها، حيث ما يزال صدى صوت الناي المُنبعث من جلساتِ السمر التي كانت تقام فيما مضى على ضفافِ الأنهر، يسمو في النفسِ الإنسانيَّة المتمسكة بالأمل، والطامحة نحو الارتقاء، فقد نسج الكاتب بأسلوبٍ ارتكز على تكافؤ الحدث والعواطف، صورة إلى اِنشغافِ الشاب في ارتشافِ صدى أنغام الناي، والاِرتواء من عذوبته…. “كان يسند ظهره على صخرة ووجهه قبالة النهر.. يمسك الناي بكلتا يديه يداعبه بين شفتيه… يحدق في الأمواج التي تتمايل أمامه.. يريد أن يراقصها.. يميل معها حيث تميل…” ص – 10.

ويستمر الكاتب في التحليق بعيدًا بفضاءِ السَردِ، معتمدًا على حشدِ ما يملك من تِقنياتٍ سرديَّة وأدوات لغوية في مهمةِ إيصال رسالته بأسلوبٍ شفيف يعبر عن الوعيِّ بضرورةِ الاِنسجام ما بين العبارات والمغزى، فجاءت أبعاد الإيقاع الدلاليَّة جليةً عندما: مد الرجل المسن يده نحو جيبه، أخرج الناي، وقدمه إلى الشاب المهووس بنغمه، ثم قال له بصوتٍ أبح: “.. بني لقد وجدت في داخلك نغمًا يافعًا، منذ أن كان خيالك يلاحقني ويملأ فضاء النهر.. كنت أنت النغم الذي استنشقه كلما أنظر إليك وأنت تعتلي موجات النهر.. كنت أشعر فيك طوال المدة التي كانت أنغام الناي تداعب خوالج قلبك.. كنت أراك في داخلي وترًا يملأ جسدي المنهك”. ص – 12.

وسعيًا في الحفاظ على تماسكِ النص، والبلوغ إلى ذروته بالتحليق في الخيال، والتعبير عن عواطفِ النفس الجياشة، يختزل الكاتب – على لسانِ الرجل المسن – مشواره السردي هذا العديد من المعاني المتأرجحة ما بين الخوف والأمل، القلق والرجاء… “اليوم باتت شفتاي لا تقوى على حمل الناي وأمسى النغم يلفه الموج.. يخنقه.. يموت في قاعه المظلم.. أنقذه من الغرق.. اجعل من صداه حورية تعتلي الموج لترقص على نفثات الناي الجديد..”. ص – 12.

يمكن القول إنَّ الكاتبَ اِستثمر هُنا هذه الجزئية، ووظفها بحنكةٍ في  تقنياتِ التعبير السرديّ لتأصيلِ رسالة المواطنة المتمثلة بمهمةِ حمل أمانة الحفاظ على البلاد، ورسم مُستقبلها الزاهر في أرواحٍ تواقة لبناءِ وطن ينعم أناسه بنسماتِ الحرية والعيش الكريم، والذي بدا واضحًا وجليًا بين ثنايا العبارات التي حملتها سُطور النص المذكور، فجاءت القصديَّة بدلالةٍ ارتكزت على رمزيةِ (الناي – الوطن)، تعبيرًا عن حاجةِ الوطن إلى الوعي بأهمية تفعيل الجهد الذاتي، والسمو بالعطاءِ إلى جمالِ الذات الإنسانية التي بوسعها مواجهة الهَمّ الوطنيّ، فطوبى لمَن يستعذب العطاء لبلده وشعبه، وإن تحمل من أجل ذلك المصاعب والتحديات والآلام…”فجأة.. نهض الرجل.. دار ظهره ومشى مسرعا حتى غاب خياله.. بينما ظل الشاب جالسا يحمل بين يديه نايا، وأمامه نهرا وضياء ينير أمواج النهر الهادئة…”. ص – 12.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *