تمرّ على الأمة الإسلامية مواسمٌ من التمحيص والابتلاء، يظهر فيها جوهر الإيمان وتتجلى فيها حقيقة القلوب، ويُفرَز فيها الصادق من المدعي، والمخلص من المنافق. ولعلّ من أعظم الدروس التي سطّرها التاريخ في هذا الباب، ما وقع في غزوة أحد، تلك المعركة التي لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت محطةً ربانية لتربية الجيل الأول وتهذيب النفوس وتربية الأمة.
لقد جاء في كتاب الله تعالى ما يبين أن التمايز بين أهل الإيمان لا يكون دائمًا ظاهرًا في حال الرخاء، بل تظهر حقيقته عند حلول الشدائد. قال الله تعالى في سورة آل عمران:
{منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة}،
فأبانت هذه الآية أن حب الدنيا قد تسلل إلى نفوس أصحاب النبي، وقد خفي هذا على بعضهم حتى نزل الوحي يفضح هذا الميل. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
“ما كنت أرى أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة}.”
وما كان هذا التذكير الرباني إلا رحمةً بالأمة، وتربيةً لها على المجاهدة الداخلية، لأن الميل إلى الدنيا ليس خاصًا بالمنافقين، بل قد يصيب الصالحين أيضًا إذا غفلوا عن محاسبة أنفسهم. وهنا تتجلى الحكمة الإلهية من الابتلاء، كما في قوله تعالى:
> {وتلك الأيام نداولها بين الناس، وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء، والله لا يحب الظالمين، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين}.
إن في هذه الآيات إشارات بليغة إلى أن الهزيمة الظاهرة قد تكون في حقيقتها نصرًا باطنيًا وتطهيرًا إيمانيًا، وأن الابتلاء سُنّة لاختبار القلوب وصقل النفوس.
ولهذا قال الله عز وجل في نفس السياق:
> {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}،
فالعلو الحقيقي ليس بكثرة العدد ولا بالتمكين الدنيوي فقط، بل بالإيمان الثابت الذي لا يتزعزع عند الشدائد، ولا ينهار أمام زخارف الدنيا.
خلاصة القول:
أن على المؤمن أن يفتش في خبايا نفسه، وأن يسأل قلبه دائمًا:
هل أنا أُؤثِر ما عند الله، أم أركن إلى دنيا زائلة؟
هل أستجيب لأوامر الله طواعية، أم تشغلني الأهواء والعوائق؟
فالهزائم ليست نهاية الطريق، بل بدايات لولادة نفوسٍ أصدق، ومجتمعاتٍ أطهر، وقلوبٍ أصفى.
السيد مخلص ال شبيب