ألتّناقض موجود في كل مكان و زمان؛ لكن ذلك الذي موجود في آلعراق هو نوع آخر ..و لو ن آخر و طابع آخر و غريب و في كثير من الأوقات لا يُصدّق , لسبب واحد هو أنك تعني بلداً إسمه العراق؛ بلد يضم من جهة (صدام) الذي كان ينساب الحقد و العنف و القسوة و الجّهل حتى من أنفاسه و نظرته و يملك زمام العراق بكل طوائفه و قومياته التي رضخت و إستسلمت له كآلعبيد فإمتازوا بنفس ..
و يضم بنفس الوقت في الجهة الاخرى عالم سويٌّ لا يملك ناصية أحد ولا مال و لا حتى وسيلة نقل ولا حتى غذاء كاف له و لعائلته بينما لم تكن أموال الناس المؤمنة عنده قليلة وقتها .. لم يكن يملك شيئ من مال الدنيا سوى قلب أبيض يسع السموات و الأرض حتى الله تعالى .. إنه (الصّدر) ألذي لا عديل له .. هذا رغم جسده النحيل و قامته القصيرة و لباسه الرّث و فراشه البسيط و مكتبة صغيرة من بعض الرفوف!
في آلعراق رأينا جيوشاً من الأمن و المخابرات و الشرطة و الحمايات و الأفواج و المنظمات الحزبية المختلفة يدافعون عن الباطل ليمحقوا الحقّ, و في مقابلهم مؤمن راشد رشيد إسمه (أبو محمد ملا رشيد) و زوجته الشهيدة التي وحدها كانت تسنده لمقاومة تلك الجيوش المليونية الحمقاء المجرمة و هو يكد ليل نهار للقمة حلال و هو يدير معملاً بآلكامل يعيش من وارئه عشرات العوائل, فهل شهدتم في كل التأريخ تناقضات عظيمة كهذا إلا في العراق!؟
لذلك فإني أنعى بمقالتي هذه ذكرى صديقي الشهيد رشيد ألذي غاب عنيّ .. و عزائنا أدباً خالداً يبقى فينا؛
“كاسيت” صغير كانت ثورة أعلنّاها بلا تدبير و مقدمات و من أين نأتي بآلتدابير و الإمكانات ولم يكن يبقى بجيوبنا درهما في أول الشهر لأن جميع المحيطين بنا كانوا أصحاب أطفال ولدوا في غفلة نتيجة غباء مفرط كانت الشهوة هي التي تسببها, ليأتوا إلى عالم القسوة و الجيوش الظالمة لينخرطوا فيها بقانون رجعي كما هي حال القوانين اليوم و التي إنبثقت من عقول ترّت على نفس الأفكار الصدامية و إن كانت معممة و مؤمنة في الظاهر .. فإستمر الفساد كما تشهدون لأن رشيد غاب عنهم !!
قصة ذلك الكاسيت الذي غيّب (رشيد) قصة مؤلمة يحتاج لكتاب .. لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله! إنها قصة ثورة (الكاسيت) التي تعلّمناها من آلرجال الآخرين الذين لم يلحقوا بهم في زمن النبي(ص), حاولنا إعلانها لشعب لا يزال لا يعرف القراءة رغم إنها مفتاح الفلاح لأمة من الأمم, لهذا حاولنا بيانها عبر تسجيل صوتي لا يكلف الكثير لمن يسمعها, خصوصا و أننا كتبنا عليها (أغنية عبد الحليم) أو (ام كلثوم) وووو كي لا يثير إنتباه المخابرات و جيوش الضلال الصدامية فتصل البعض ليسمعها على أمل أن يستفيقوا …
لم يكن مجرد نشره جريمة كبرى؛ بل وجود بصمتك فقط على الكاسيت كانت أيضا تُمثّل مشكلة قد تسبب إعدامك بكشفها, هذا إلى جانب الصوت!؟ و كذلك مشكلة أيصاله لمن نتمكن في أجواء العراق المقفلة من كلّ جانب و مكان نهاية السبعينات و ما بعده!
أوصلتُ أول كاسيت بعد طبع مجموعة منه للراشد ألامين أبو محمد الخياط الذي كان يدير معملاً للخياطة في شارع النهر ببغداد و تقبلها بفرح و كانه كان ينتظر ذلك, و كنت أرتاح لصفائه و تواضعه و إخلاصه الذي لم أشهد نصفه على دعاة اليوم رغم كثرتهم .. و حتى من الذين ألتقيتهم في إيران بعد هجرتي لذا تركتهم لأنهم كانوا أسوء من بني العباس رغم ظاهرهم و لحاهم و مسابحهم و كما ثبت فيما بعد!
حاولت التركيز على المناطق التي يكثر فيها المسؤوليين كباب المعظم و الأعظمية و الكرادة و المنصور و غيرها, لهدايتهم و ترهيبهم, المشكلة التي كرهت بعض المحسوبين على الدين وقتها, هي عند نقلي لخبر توزيع مجموعة منها في منطقة باب المعظم؛ أعلنوا إزعاجهم من ذلك و قالوا: لو كنت تريد الخير والصلاح فحاول أن ترجع و تجمع و تعيد كل (الكاسيتات) لانها تضر بنا و ربما يتم محاصرة المنطقة كلها بسبب ذلك, تصور هذه المفارقة (التناقض)؛ فبعد جهاد مرير أستطعت توزيعها و تحملت العناء و الهم و بعد ذلك يقولون لي إجمعها و في تلك الأوضاع الخطيرة جداً .. أي بلد هذا؟ و أي شعب؟ و أيّ دعاة جهلة تتعامل معهم!؟
و هل يمكن أن يفكر احد بوجود إسلام في العراق – طبعا أقصد إسلام عليّ و الصدر و الراشد رشيد – لا إسلام الفاسدين و المتخمين!؟
ثم إنتقلت للمحافظات و أولها كانت الكوت و أعطيته لصديق لنشره, ثمّ إتصلت بصديق ثان ما زال حيّ للآن لكنه رفض, و قد إتصلت بقريبه قبل فترة للسؤآل عنه, قال: أنهُ لا يملك هاتفاً ولا موقعا, و يصعب الأتصال به, لكنه إشترى بيتاً في كربلاء .. كلام لا يرتبط بسؤآلي و بما عنيته, ولا أدري مناسبته, سوى كونها تناقضات صارخة لأنك في العراق ولا عجب أن تسمع ذلك!؟
المهم؛ حاولت إيصال الكاسيت وقتها عام 1979م لذلك الصديق و هو مدرس للغة العربيّة في إعدادية الكوت؛ قلت له؛ هذا كاسيت لهداية الناس لا أغنيّة كما يبدو يمكنك نشره لتوعية الناس ألذين سيواجهون محناً وخيمة بسبب ثقافة الجهل الذي ينشره حزب البعث!
و لم أكن أنهي نصف كلامي و إذا به قاطعني وإعتذر على الفور ولم يستلمه بل بدأ يرتجف و كأنه مقبل على حبل الأعدام, فقلت له؛ طيب يا أخي لا تنزعج, سأبحث عن غيرك لعلي أجده ليقوم بهذا الأمر و سأرحل لأني على موعد في مدينة أخرى, ثم إتصلت بقريب لي و أعطيته الكاسيت و قلت له : إسمعه جيّداً, إنها أغنية جديدة تجمع خير الدنيا و ألآخرة و كان طالباً في نفس الأعدادية, و هكذا خُليت محافظة كبيرة كواسط من مؤمن ليقوم بنشر الحقّ, فآلجميع إنخرطوا بمؤسسات النظام و جيوشه العسكرية و المدنية بغباء مقدس!
كل عملنا كان ثقافياً في حركتنا الثورية .. كان متناقضا هو الآخر : فكيف يمكن أن يغير العمل الثقافي و أنت أمام جيوش عسكرية و أمنية و إستخباراتية لا تفهم حتى معنى الثقافة, بل تريد قتل كل من يشم منه رائحة المعارضة!؟ و هذا هو التناقض لأنك في العراق!
لذلك إنتبهنا لتشكيل حركة مسلحة لمقاومة شعب مسلح لنشر الفساد و الكفر البعثي؛ فحصلنا بعد اللتي و اللتيا على أول مسدس لكن بدون (المشط) و كذلك على قنبلة مؤقتة في مكان لم أهتدي إليه .. و هكذا لأنك في بلد المتناقضات و العجائب!؟
لم يكن لنا ملاجئ كثيرة لأن النظام كان يلقي القبض على المؤمنين بلا ذنب سوى كونه لم ينتمي للبعث وكانوا أقل من القليل .. لذلك سرعان ما كانت تُغلق ويتبرأ منه حتى عائلته للأسف بعد إلقاء القبض على أعضاء تحرّكنا لكثرة المخبرين, لهذا لم يبق ملجأ بعد رحيل أبو محمد رشيد ومحمد فوزي و خليل و حيدر و فؤآد و بديع و موسى و خليل وووو باقي الأعضاء الذين لا يلد الزمان بمثلهم!
بقيت وحيداً بعد أن أغلقت الأبواب بوجوهنا و تعبت وأصبت بأنواع الأمراض كقرحة المعدة و القلب و غيرها, بسبب الإرهاق و التفكير المستمر بمصير شعب لا يريد حتى سماع صوت الحق و للآن لا يجهد نفسه لقراءة مقال, سوى أخبار الموتى و الولادات .. لهذا كنت أرى عاقبة العراق بوضوح دون الناس منذ ذلك الوقت و قد حذّرت المقرّبين منها و لكن من يدرك كلامنا إلا بعد عقود و ربما قرون!
لم يبق لي صديق ببغداد كما المحافظات الأخرى التي كانت مقفولة لحزب الجهل البعثي و الناس يصفقون [بآلروح ؛ بآلدم, نفديك يا صدام], بآلضبط كحالهم اليوم [بآلروح؛ بآلدم, نفديك يا هو الجان]؛ حيث يصفقون لكل من يُعيّن لهم راتب و مورد و منصب بآلحرام أو الحلال, ثمّ لم يبق حتى بيت واحد نأويه سوى صديق واحد تعرفت عليه بداية 1980م عن طريق الشهيد خليل إبراهيم و كان إسمه (حيدر) من مدينة(قرية تبه) التابعة لكركوك, وكنت أزوره أحياناً في غرفته التي إستأجرها في حي(بشارع الأمين), وحين إطلع على وضعي ذات يوم قال لي ألأفضل أن تترك العراق لان وجودك بعد الآن مضر علينا وعلى نفسك خصوصا بعد إلقاء القبض على أصدقائنا, وسيأتيك (المعلم …)لينقلك إلى كردستان و منها لإيران, ثم عتب علي عتبا شديداً حين علم بأني سافرت إلى أوربا قبل عام و بعض الدول العربية و رجعت للعراق في لحظة لا أدري أية قوة سحبتي بلا إرادة لأوقع نفسي في جهنم العراق ثانية بعد ما تخلصت منه!
على كل حال جائني المعلم في اليوم المشهود و ركبنا من كراج النهضة إلى حيث نواحي أربيل ثم إلى(المثلث الحدودي) منطقة الوادي (مقر الأحزاب الكردية) و إلتقيت بقيادة الاتحاد الوطني وطرحت عليهم ضرورة التوسع في المدى الفكري و عبور الحلقة القومية إلى حيث العراق و العالم و الأنسانية, لكن كاكا فؤأد معصوم و آخرين لم يرتاحوا لذلك! رغم إني قلت لهم: [لِمَ لا عندما يكون بآلأمكان أن (يكون أحدكم رئيسا للعراق كله بدل منطقة كردستان لوحدها فيما لو كسرتم شرنقة القومية البغيضة إلى مدار الأنسانية)؟
لقد كانت كلمة عابرة في وقتها؛ لكنها أصبحت حقيقة فيما بعد .. بعد مضي ربع قرن .. بغض النظر عن سلبياتها أو إيجابياتها.
و كنت ضيقا عليهم ثلاثة أيام و بعدها غادرت المنطقة إلى حيث مدينة سردشت ألأيرانية ثم إلى سنندج بطائرة هليكوبتر ثم إلى طهران, و منها لعدة مدن حتى خروجي من إيران و للآن ما زلت متغرباً .. بعد أن فشلت بآلتأقلم مع الناس ثانية لسوء الحالة الصحية, و لأن الفواصل الفكرية بيني و بينهم لم تعد تقاس بآلوحدات الأرضيّة .. بل بآلكونيّة لحسن أو لسوء الحظ. و الحمد لله على كل حال.
العارف الحكيم عزيز حميد مجيد.
